قرار إيران تصعيد المواجهة بريا مع السعودية بدفع الحوثيين لمهاجمة الحدود وقصف مدينة نجران وخاصة الأهداف المدنية، نقل الحرب باليمن لطور جديد بإجماع المراقبين على تعدد توجهاتهم، وهو ما برز في تعاطي القوات المسلحة السعودية والتحالف العربي المشارك، واعتبار مقر القيادة والتحكم للنفوذ الإيراني في صعدة هدفا إستراتيجيا للعمليات.
تصعيد الحوثي الأخير سيُكلف اليمن المزيد من الخسائر التي لا يَسُر أي عربي بسقوط أي مدني فيها من أي طرف، لكن مجمل التدخل الإيراني في المنطقة الذي استنزف مليونا ونصف المليون عراقي بشراكة مباشرة مع الأميركيين، لا يُبالي بهذه الأرقام في سبيل توسيع أو المحافظة على مشروعه.
ومن المهم للغاية ونحن نكتب في هذه المرحلة الدقيقة للحرب وقبل أن نتحدث عن مدارات الميدان ومسارات العمق الإستراتيجية للمعركة، أن نستعرض الموقف الإقليمي المتطور وعلاقاته بمجمل المشروع الإيراني، والذي يفسر تصعيد طهران ودفعها الحوثيين وصالح إلى آخر نفس في ميدان المعركة، بدلا من القبول بسحب قواتهم من المدن وعودة الحوار السياسي تحت سلطة شرعية دستورية، تبقت في اليمن كرمز وإن أضعفها هادي كثيرا لكن تُستثمر ليُبنى عليها المشروع الانتقالي الوطني.
هذا الموقف الإقليمي مرتبط بكل مشروع إيران الإقليمي في المنطقة، فمنذ خسارة المعارضة السورية حمص وتقدم قوات النظام، لم تواجه إيران تراجعا ميدانيا كما يجري اليوم في الجبهة السورية لحروبها مع الشعب العربي، فتقدم الثوار بات يتوسع في جبهات عديدة في سوريا، وهو يتزامن بصورة غير مسبوقة مع انهيار معنويات واستنزاف لعسكر النظام، واضطراب معنوي كبير بعد وصول الثوار للساحل وتهديدهم المعقل الأمني لقيادات قواته، الذي حُيد طويلا عن الصراع.
وبموازاة ذلك، دفعت إيران حزبها اللبناني مع إسناده وتسليحه، واستخدام الجيش اللبناني ونفوذها في لبنان من العمق إلى الحدود، لخوض معركة القلمون وإنقاذ النظام، فيما يبدو كآخر بطاقة لها تتضمن مخاطر كبيرة، فحشد لها الحزب طائفيا لإنقاذ مشروع إيران وإنقاذ ذاته السياسية في لبنان، وهو ما يترتب عليه رفع فاتورة استهلاك الحزب لحروب طهران بصورة واسعة، جعلت جنائز قتلاه في حربه على الشعب السوري تتقاطر على الضاحية الجنوبية بصورة غير مسبوقة.
وهذا الاختلال الواسع في المشروع الإيراني شمل أيضا ميدانه العراقي، حيث انكسرت قوات الحشد الطائفي والمليشيات المتعددة أمام مدن الاستقلال العراقي السنية، وبدأ الحشد بتوسيع مذابحه في مناطق السُنة، بعد عجزه عن كسر قوات العشائر، التي تشترك ميدانيا مع داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) كضرورة ألجأتها إليها فظاعات سياسة حكومة العبادي ومليشيات إيران والدعم الأميركي له، في حين تخلى العرب عنهم، لكن ليس توافقا فكريا أو إستراتيجيا.
علما بأن داعش تشهد تطورا لم يظهر بعد على الأرض، يشير إلى انسحابها المُرجح من سوريا وعودتها لمعقلها العراقي، وهو ما يُقلل فرص استخدام داعش ضد الثورة السورية كما جرى في أوائل 2013 وما تلاها، ويُسهل مهمة تحالف جيش الفتح، الممثل لإجماع غالبية الثوار والذي أعاد حضور فصائل الجيش السوري الحر، واندمجت فيه مع فصائل إسلامية معتدلة، وحصدت هذا التقدم الكبير لثوار سوريا.
ومع صحة كل أنباء هذه التراجعات وأزمة إيران الجديدة في مهاباد الكردية، فإننا نحذر من الاندفاع العاطفي واعتبار المشروع الإيراني الحربي والطائفي ضد العرب في مرحلة هزيمة كاملة، فهذا التقدم قد يتعرض لجولة استرداد تعمل لها موسكو وطهران حثيثا، كما أن هذا التراجع الإيراني في هذه الجبهات جاء في توقيت دقيق لطهران، حيث بدأت حصد حصيلة مشوار مهم وطويل لإعادتها كشرطي للمنطقة بصفقات توازن بينها وبين الغرب الذي اعتبر أن الحالة المواجهة لها في وضع موت سريري، وبالتالي تعامل بحيوية مع إيران الحليف الجديد.
كما أن التحالف مع موسكو التي بدورها راهنت على انتصار إيران في سوريا والعراق وتحركت اليوم لدعمها في اليمن، شكّل لها ذلك التقدم السابق ترسا حيويا مهما في مفاوضاتها مع الغرب وإعادة تموضعها عربيا، بعد أن أدخلت مصر كراع مساند لمشروعها في سوريا الهادف لتحويل خسارة المعارضة العسكرية الكبيرة إلى إقرار سياسي يخضع لعهد جديد للأسد والمشروع الإيراني.
وهذا المشروع بالذات تعرض لضربة كبيرة، حين أعلن العاهل السعودي رفضه له في قمة الخليج الاستشارية الأسبوع الماضي، وحدد الرياض لعقد مؤتمر في الأشهر القادمة، لتوحيد المعارضة واختيار حكم انتقالي لما بعد الأسد، وهو ما قد يقطع الطريق على مشروع موسكو القاهرة، ويُشكل قاعدة تحول سياسي مهم للمعارضة لو نجحت في تطوير وتوسيع مشروع جيش الفتح وضبط مساره، وتلقت دعما عسكريا نوعيا من المحور الخليجي المساند لها ومن تركيا.
وفي المقابل فإن الانسحاب العملي، ولو دون إعلان رسمي، من خطة واشنطن وطهران المُنفذة عبر حكومة العبادي بات ضرورة، ومواجهة تشظيات داعش أو عشوائية عملياتها بإطار إقليمي مستقل، علما بأن داعش قد تضطرب حين يتأكد مصرع خليفتها أو إصابته، وسيضمن انسحاب هذه الدول تهيئة مهمة للمحور الإقليمي البديل للشرق الإسلامي، كل ذلك سيفقد إيران قواعد اللعبة، ويجعل كل اختراقاتها بما فيها الجيب الخليجي معرضة للسقوط، وقد تبدأ قواعد لعبة جديدة لمصلحة العرب والشرق الإسلامي.
إن حدث ذلك فسيساعد كثيرا على هزيمتها في اليمن واختصار تكلفة الحرب، مما يفتح الباب لإعادة تنظيم غرفة العمليات عسكريا وسياسيا للتحالفات العشائرية الشمالية التي تستطيع شخصيات مناهضة لإيران قيادتها في الميدان، وخاصة شخصية علي محسن الأحمر.
وبموازاة ذلك تُدعم المقاومة الشعبية الجنوبية، ويُنسق مشروعهم السياسي المشترك لما بعد الحرب ليضمن حق الجنوب ضمن تصور توافقي كامل لصناعة اليمن الجديد، الذي يجب أن يُدعم اقتصاديا بقوة دون تردد، وعبر وسائط شعبية مضمونة لا تتكرر معها سرقات صالح التي جمع منها 60 مليار دولار.
وبالتالي يتزامن الحسم العسكري الممكن في اليمن مع مسار إنقاذ سياسي عبر توافقات هذه القوى المشكلة للعصبيات الاجتماعية التاريخية في اليمن، والتي يمكن تحولها لمواجهة إيران، وهو ما سيضمن لرؤى الثورة وكل من تطلع ليمن سعيد جديد العودة إلى خطاب الفكر والقلم والنهضة، وهي حصيلة لن تكون مرضية تماما لتطلعات ثورة اليمن التي حاصرها صالح بدعم خليجي ونقضتها طهران وفجرتها اجتماعيا، لكنه سيفتح بابا لعودة الأمل بنور القلم لا نار السلاح.