لا تزال المعالجة الإعلامية وحتى السياسية للشأن الصومالي متأثرة بالروايات المنحازة والصور الذهنية السلبية. ألم تُصبح الصومال في الإدراك العام العربي والدولي رمزا للفوضى وغياب الدولة؟
فإذا ذُكرت قضايا القرصنة والإرهاب واحتراب أمراء الحرب والانقسام الداخلي انصرف الذهن إلى الصومال، حتى أضحت "الصوملة" إطارا تحليليا لفهم ودراسة مواقف الانقسام الوطني والحروب الأهلية. لم تقتصر تلك الرؤية على الإعلام وحده، رغم دوره الأبرز في الترويج لها، وإنما شملت كذلك التحليلات العلمية والأكاديمية فنجد البعض يتحدث عن "التراجيديا الصومالية" أو "المرض الصومالي" لوصف أزمة الدولة والمجتمع في الصومال منذ عام 1991.
على أن حدة الهجمات الإرهابية التي تقوم بها حركة الشباب مثل المجزرة المروعة التي أدت إلى مقتل ما يقرب من 150 طالبا جامعيا في غاريسا قرب الحدود الكينية مع الصومال قد أظهرت عدم فعالية المسار المتبع في مكافحة الإرهاب. ولا شك أن هذا المسار يتعامل مع الأزمة الصومالية من واقع الإدراك والمخيال العام، وليس استنادا إلى الجذور والأسباب الحقيقية. وعليه يسعى هذا المقال إلى بيان بعض الأوجه المسكوت عنها، التي تمثل إثارتها مدخلا صحيحا للإصلاح والتسوية سواء في الصومال أو في دول الجوار المعنية. الصومال الكبير
على الرغم من الضربات الأمنية المتلاحقة التي وجهتها الولايات المتحدة إلى حركة الشباب الصومالية وأدت إلى مقتل أو اعتقال بعض قادتها البارزين فإن الحركة لا تزال قوية وقادرة على تنفيذ الهجمات خارج الأراضي الصومالية ولا سيما في كينيا. وقد تمكنت الحركة بالفعل من تنفيذ هجمات دموية في الأراضي الكينية خلال العامين الماضيين.
ففي 21 سبتمبر/أيلول 2013 استطاع بعض مقاتلي الحركة دخول متجر للتسوق في العاصمة نيروبي وقتل نحو 60 شخصا من المتسوقين. وفي يونيو/حزيران 2014 تم مهاجمة 48 قرويا وقتلهم، بالإضافة إلى مقتل 28 من ركاب إحدى الحافلات ونحو 36 من عمال المحاجر في مانديرا نهاية عام 2014.
ما الأمر المسكوت عنه هنا؟ وما الذي يدفع الشباب في كينيا إلى الانضمام لحركة الشباب المجاهدين؟ وكيف نفسر عجز الحكومة الكينية وحلفائها عن وقف هذه الهجمات الدموية التي تزداد حدة وعنفا؟ لقد كان الرد الكيني هو شن غارات جوية على بعض مخيمات اللاجئين الصوماليين، بل وإغلاق عدد كبير من محلات الصرافة الصومالية في العاصمة نيروبي، وهو ما يهدد عمل منظمات الإغاثة الدولية.
ومع ذلك فإن المسكوت عنه هنا في الحالة الكينية هو العودة للجذور ولا سيما فترة التكالب الاستعماري وتقسيم الصومال الكبير. فقد أدت سياسات التدافع الدولي في أفريقيا زمن الاستعمار إلى إعادة تخطيط الحدود بشكل مصطنع، حيث اقتطع جزء من الصومال ليشكل المقاطعة الحدودية الشمالية في كينيا. وقد رفض الرئيس كينياتا الأب عودة هذا الإقليم للصومال مرة أخرى، وإن سمح لقاطنيه من الصوماليين بأن يأخذوا جمالهم ويرحلوا. ويبلغ عدد السكان الكينيين من أصول صومالية اليوم نحو مليوني نسمة يُنظر إليهم باعتبارهم أجانب أو على الأقل مواطنين من الدرجة الثانية، ولا سيما بعد تدخل الجيش الكيني عسكريا في الصومال عام 2001.
ولقد دفع سوء الأوضاع التي يعاني منها هؤلاء الصوماليين داخل كينيا إلى النظر صوب حركات التطرف الإسلامية كنوع من الخلاص، إذ ليس لديهم ما يخسرونه. ولعل ما يلفت الانتباه أن أحد المهاجمين في حادثة غاريسا كان يتحدث بالسواحلية، وهي اللغة الأكثر انتشارا في ساحل شرق أفريقيا. ولعل ذلك ينطوي على تزايد خطر الراديكالية على المستوى الإقليمي في أفريقيا، بحيث لم تعد شأنا صوماليا أو كينيا فقط.
ومن المعلوم أن المقاطعة الساحلية في كينيا التي تتحدث السواحلية تشهد منذ عام 1999 وجود المجلس الجمهوري لمومباسا الذي يسعى للانفصال عن كينيا. ولعل سؤال الهوية الكينية في هذه المنطقة الساحلية يكون قد وضع على المحك نظرا لمعاناة السكان من التهميش والفقر والبطالة. وعليه فإنه عوضا عن الردود الانفعالية والتركيز على المسلك الأمني في مواجهة الهجمات الإرهابية ينبغي أخذها بمحمل الجد وفهم حقيقية ما تعنيه ووضع إستراتيجيات أكثر ذكاء وتكتيكات أكثر فعالية تقوم على تحديد من هو العدو الحقيقي، وكسب العقول والقلوب، وتبني استجابات سريعة ودقيقيه من أجل احتواء الإرهاب ودحره في نهاية المطاف.
ما الذي حدث خطأ؟
ذكرنا في أكثر من مناسبة ومن خلال هذا المنبر أن أزمة الصومال منذ انهيار الدولة تعكس غياب السياسة بمفهومها التوافقي مقابل إعلاء المصالح الخاصة والفئوية. فقد كانت هناك سلسة من الحسابات السياسية الخاطئة وسوء تقدير لتعقيدات الموقف على الأرض من قبل الأطراف الصومالية والخارجية الفاعلة ولا سيما منذ عام 2004. ومن الواضح تماما أن سوء التقدير هذا هو الذي دفع باتجاه مجموعة من الأزمات الكبرى التي عصفت بكيان الصومال وجعلته عصيا على تحقيق الأمن والاستقرار.
لقد كان قرار التدخل الأميركي عسكريا في الصومال في 1992 خاطئا بكل المقاييس حيث لم يأت بالنتائج المرجوة، وإنما أجبر الأميركيين على الانسحاب بعد حادثة إسقاط طائرة البلاك هوك في 3 أكتوبر/تشرين أول 1993 التي أضحت موضوعا للأعمال الدرامية والأدبية منذ ذلك الوقت. وعلى الرغم من مقتل مئات الصوماليين في ذلك الوقت فإنهم احتفلوا بهزيمة أميركا ومقتل ثمانية عشر من جنود المارينز.
لقد ولد جيل جديد من الصوماليين بعد هذه الواقعة، لا يعلم من دنياه سوى لغة السلاح والفقر والتشرد، يجد بلاده تخرج من حرب لتدخل أخرى وكأن هناك أيديا خفية تحكم على الصومال بأن يظل أسير الفوضى والانقسام. جاءت الفرصة الذهبية في يونيو/حزيران 2005 حيث استطاعت المحاكم الإسلامية بسط سيطرتها على مقديشيو وإحلال السلام في ربوعها لمدة ستة أشهر بالتمام والكمال.
بيد أن سوء التقدير وفساد السياسة يدفع مرة أخرى لاتخاذ قرار إثيوبيا بالتدخل العسكري لإنهاء حكم الإسلاميين، وذلك بدعم ومباركة من الولايات المتحدة الأميركية، وفي إطار صمت معتاد يصل حد اللامبالاة من جانب النظام العربي.
ولعل السؤال الذي فات أوانه يتمثل في: هل كان ممكنا تصور صعود نجم حركة الشباب إذا استمر نظام المحاكم الإسلامية؟ أم أن غزو إثيوبيا للصومال، وهي العدو التقليدي له، قد أسهم في إشعال نار الكراهية والعداء وفتح باب التطرف والراديكالية بين صفوف الصوماليين.
لم تتوقف القرارات والحسابات الخاطئة بعد. فالحكومة الصومالية المؤقتة التي لا يكاد المرء يذكر اسم رئيس وزرائها نظرا لكثرة تغييره كل بضعة أشهر، لا تسيطر إلا على جزء صغير من البلاد في العاصمة مقديشيو وما حولها. و مع ذلك فإنها حكومة معترف بها دوليا لتمثل شعبا لا تستطيع حتى الوصول إليه. وعليه فإن عقلية "لانكستر هاوس" البريطانية لا تزال هي السائدة في التعاطي مع الملف الصومالي.
كل ذلك يؤكد أهمية إبراز المسكوت عنه، وهو أهمية المبادرات الداخلية بعيدا عن تجاذبات المصالح الإقليمية والدولية التي تكرس وضعية عدم الاستقرار في الصومال. الوجه الآخر للصورة
قد لا يدرك كثيرون في العالم العربي، بما في ذلك وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري أن ثمة وجها آخر للصومال يدعو إلى الأمل والتفاؤل. إنها قصة نجاح إقليم أرض الصومال الذي أعلن انفصاله من جانب واحد عام 1991 رغم عدم وجود اعتراف دولي به حتى اليوم. وتطرح تجربة هذا الإقليم في بناء مؤسسات الدولة والتحول الديمقراطي نموذجا يحتذى به، ليس فقط في الداخل الصومالي ولكن كذلك على الصعيدين العربي والأفريقي.
عقد في مطار العاصمة هرجيسا منتصف شهر مارس/آذار مؤتمر صحفي وجه فيه أحد شباب الصحفيين سؤالا للرئيس أحمد محمد سيلانيو جاء فيه "هل صحيح أن الرئيس ديكتاتور؟" بيد أن سيلانيو استطاع الرد ببراعة قائلا "لو كانت هناك ديكتاتورية لما استطعت طرح مثل هذه الأسئلة أصلا". ولعل ذلك يفرض إثارة الانتباه إلى هذه التجربة التي تمثل واحة حقيقية للاستقرار والتعددية في منطقة شرق أفريقيا، على عكس خبرة جمهورية جنوب السودان التي وجدت مساعدة عربية ودولية ورغم ذلك ولدت دولة فاشلة.
لقد استطاع أبناء أرض الصومال على مدى أربعة وعشرين عاما بناء مؤسسات الدولة: فثمة مطار يشع بالحيوية رغم صغر حجمه، بني بمساعدة كويتية، وإدارات للجوازات والإقامة، وأجهزة للشرطة وفرض القانون، وبرلمان وانتخابات، وفوق هذا كله احترام لحقوق الإنسان الأساسية. وجدت هذا كله أثناء زيارتي لهرجيسا أواخر العام الماضي. أحسست بتصميم الشباب والشيوخ والنساء على مواجهة التحدي وصنع مستقبلهم بأيديهم.
ولعل المسكوت عنه هنا يتمثل في أهمية درس أرض الصومال. فقد استطاع سياد بري تدمير كل شيء. وعندما تركها كانت الأسلحة في كل مكان، وكان المجتمع يعاني من الانقسامات والنزاعات العشائرية. ومع ذلك فقد تمكن كبار السن من خلال مؤتمرات المصالحة الوطنية المعتمدة على الذات، رسم خريطة المستقبل والاتفاق على نزع سلاح المليشيات وتأسيس نظام ديمقراطي تعددي بنكهة تقليدية حيث احتفظ زعماء العشائر وكبار السن بدور مهم في عملية صنع القرار. لماذا نجح إقليم أرض الصومال وفشل الصومال الأم نفسه؟ هذا هو المسكوت عنه عربيا وإعلاميا.
المثير للاهتمام في قصة نجاح أرض الصومال أنها تعبر عن تصميم مواطنيها في تحدي كل الصعاب وبناء ديمقراطية حقيقية تكون نموذجا في القرن الأفريقي. لقد رأيت بنفسي كيف أن شباب هرجيسا يطلقون لأنفسهم العنان للتعبير عن إبداعاتهم الفنية والثقافية تحت رعاية أحد أبناء الوطن العائدين الذي كرس حياته لإعادة إحياء التراث الثقافي والحضاري لأرض العطور والبخور. مرة أخرى فإن المسكوت عنه هو كيف استطاعت أرض الصومال تحقيق ذلك كله دون مساعدات خارجية؟!
إن إعادة طرح هذه القضايا يساعد على الفهم والتعرف على الأسباب الحقيقية المفضية للتطرف والإرهاب، وهو ما يخرجنا من عقم المعالجات الأمنية الضيقة ويبعدنا كذلك عن قصر النظر الذي لا يتجاوز الصور الذهنية السلبية والروايات المنحازة السائدة.
لقد عانت الأزمة الصومالية منذ البداية من سوء التقدير وخطأ الحسابات من قبل الأطراف الفاعلة في الداخل والخارج بينما اكتفينا نحن في العالم العربي بموقف سكوني يعبر عن عدم الاهتمام واللامبالاة.