إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا لإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعـــد
فإن علم اصول الفقه من أجل العلوم مرتبة وأشرفها منزلة وأعظمها فائدة، إذ به تُعرف القواعد التي يطبقها المجتهد لاستخراج الأحكام، وهو الذي يُعنى بدراسة مصادر التشريع الإسلامي لا سيًيما السنة النبوية الشريفة، وهذا الموضوع بصدد التًطرق إلى مبحث من مباحث سنته صلى الله عليه وسلم ألا وهو الترك. يعد ترك النبي صلى الله عليه وسلم من المواضيع التى حصل فيها الاختلاف بين الآراء، فؤجد من جعل كل متروك للنبي صلى الله عليه وسلم حراماً أو بدعة، وؤجد من أباح كل متروك، فتصدع صف الأمة بالشًقاق والنًزاع، لذلك أردت أن أبحث في هذا الموضوع حتى أساهم في ردم الهوة الواقعة بين المختلفين.
فاسأل الله تبارك وتعالى السداد والإخلاص والقبول .
أهمية الموضوع
يتعلق الموضوع بجانب من تصرفات الني صلى الله عليه وسلم وتتجلًى أهميته فيما يلي:
1ـ موضوع الترك فيه تضارب للآراء حول ماهيته وحجيته، والكتابة فيه يمكن أن تزيل هذا التضارب، وتقلل من الفجوة التى بين الآراء.
2ـ الموضوع يُساهم في توضيح الرًؤية المتعلقة بمعرفة حقيقة الترك وضوابطه وقواعده.
3ـ الكتابة في هذا الموضوع تكتسب الأهمية من قيمة العلم الذي تُعنى به الدراسة وهو علم أصول الفقه.
4ـ الترك النبوي من المباحث الدقيقة التى له ارتباط بالبدعة من جهة، وبالمصلحة الشرعية من جهة أخرى، وهذا البحث يحاول فصل الترك المتعلق بالبدعة عن ذلك المتعلق بالمصلحة.
تمهيد
اقتضت بعثه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكونه رسولاً من عند رب العالمين، أن يكون قدوة لجميع البشر في كل ما صدر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأمر سبحانه المسلمين بالاقتداء والتأسي به والمتابعة له، وحثهم على ذلك جاعلاً إياه في أعلى منزلة وأسمى مكانة، فمن تأسى به نال الخير كله، والرفعة، والسؤدد في الدنيا والآخرة، ومن لم يكن كذلك كان من أهل الذلة والصغار ـ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري " مسند أحمد. وحيث إن الأمر كذلك، فإن كل ما صدر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيا كان ذلك الصادر عنه ـ فيه تشريع للأمة من بعده، ودين يتقرب به إلى الله سبحانه. وهذا الذي صدر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عرف عند المسلمين بالسنة، حيث كانت السنة مصدراً من مصادر التشريع ومعرفة أحكام رب العالمين، فكان قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أخبرنا سبحانه أنه وحي من عنده، فكلام الرسول ليس ككلام بقيى البشر بل كلامه معصوم، قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى) النجم: 3ـ4. ومعلوم أن التكاليف الشرعية ما هي إلا طلب فعل أو ترك، وغالب تلك التكاليف ما علم إلا من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث إن القرآن لم يحتوى على كثير من الأحكام المفصلة، بل تعرض لها إجمالاً، وبينت السنة ذلك الإجمال، وفسرته بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذا أمر معلوم، لا يخفى على أحد. وكما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشرعاً بقوله فقد كان مشرعاً بفعله، ويقول للناس: " صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري. ويقول: " لتأخذوا مناسككم " رواه مسلم.
وإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشرعاً بالفعل، فهل كان مشرعاً بالترك كذلك؟ لقد ورد في السنة ما [1]يشير إلى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قاصداً الترك، فعن عائشة ـ رضي الله عنها لقد ورد في السنة ما يشير إلى " أن كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليدع العمل، وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم " رواه البخاري.
وقد جاء في الحديث ما يقتضي أن الترك عبادة، من ذلك ما ورد من حديث معاذ بن أنس الجهني: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء "رواه الترمذي .وهذا الحديث وغيره يدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مشرعاً بالترك، وأن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا ينقلون عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الترك كما كانوا ينقلون عنه الفعل سواء بسواء وما ذاك إلا لما استقر في أذهانهم أن ذلك تشريع للأمة وبيان للأحكام، وأن الترك يتعلق به أحكام شرعية وثواب وعقاب وتكليف. ولكن ما هي صفة هذا التشريع، وهل كل ترك منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكون حجة، أم أن منه ما هو حجة ومنه ما ليس بحجة، وهل استنبط الفقهاء أحكاماً شرعية من تركه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وما هي الضوابط التى قام عليها هذا الاستنباط إن وجد، هذا ما أحاول بيانه في هذا الموضوع.
التعريف بترْك النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم
"فهم الشيء فرع عن تصوره " ولذا ينبغي على المتعرض للكلام في حجية الترك النبوي ودلالته أن يفصل القول في ماهية هذا الترك، والمراد بالماهية أعم من مجرد التعريف، فهو يشمل التعريف بالترك بوصفه مركباً وليس بلقب، وهو ذها الوصف لابد من التعريف بمفرديه لغوياً وأصولياً، ويشمل كذلك التعريف بوصفه لقباً، وهو في هذا الصدد يشمل كل ما يوضح هذه الماهية ويساعد على تصورها في الذهن لوضوح الصورة السليمة من محور هذه الدراسة .
الترك في اللغة: الترك مصدر فعله ترك: يتركه: تركاً وتركانا. ومنه: تركة الرجل الميت وهو ما يخلفه بعد الموت: فعلة بمعنى مفعول. ومنه امرأة تريكة، أي متروكة فلا تتزوج. والتريكة: روضة يغفل عنه رعيها. وقيل: هو المرتع الذي كان الناس رعوه إما في فلاة وإما في جبل. قال ابن بري: "وقد استعمله الفرزدق في ما تركه السيل من الماء فقال: كان تريكة من ماء مزن .... وداري الذي من المدام. والتريكة: البيضة بعد أن يخرج منها الفرخ". وقد ذكرت المعاجم للترك أكثر من معنى، كلها تحمل معنى مفارقة الأمر أو الشيء، وهذه المعاني هي:
قال الراغب: ترك الشيء: رفضه قصداً واختياراً أو قهراً واضطراراً.
تعريف الترك عند الأصوليين:
لم يتفق الأصوليون على تعريف واحد للترك بل اختلف معناه باختلاف استعمالهم له، ويمكن القول بأن لهم في تحديد المراد من الترك اتجاهين مشهورين ، وفيما يلي بيان هذين الاتجاهين:
الاتجاه الأول: الترك: هو عدم فعل المقدور:
سواء كان كفا أو استمراراً للعدم الأصلي، فكلاهما يطلق عليه ترك، فلا يشترط في الترك هنا القصد، ولا يشترط التعرض للضد، بل هو مجرد عدم الفعل على أي وجه كان ما دام الفعل مقدوراً. قال عضد الدين الإيجي: " الترك هو عدم فعل المقدور، سواء كان هناك قصد من التارك أو لا كما في حالة الغفلة والنوم، وسواء تعرض لضده أو لم يتعرض، وأما عدم ما لا قدرة عليه فلا يسمى تركاً ولذلك لا يقال: ترك فلان خلق الأجسام ". ووافقه من المعاصرين: المفتى محمد عميم البركتي.
الاتجاه الثاني: الترك: هو: كف النفس عن إيقاع الفعل:
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية أن " الترك في اصطلاح أكثر الأصوليين والفقهاء: كف النس عن الإيقاع ". وعرف ابن فورك بأنه: " الحكم الحاصل لمن يصح منه حصول ضده بدلاً منه ". فقوله حصول ضده بدلا منه معناه: لم يقدر على فعل الضد، وهذا التعريف بمجرده موافق لما ذكره أصحاب الاتجاه الأول لولا ما ذكره بعد ذلك من أنه من قبيل ما يكتسبه العباد. وعرفه الأنصاري بقوله: " الترك عبارة عن موجود كائن مضاد لما يضاده " ، فقوله: " موجود كائن " يعني أنه وجودي، وقوله: " مضاد لما يضاده " أي: يشترط فيه: التعرض للضد وهو معنى الكف. قال شيخ الإسلام: " وقد تنازع الناس في الترك، هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ والأكثرون على أنه وجودي، وقالت طائفة كأبي هاشم الجبائي: إنه عدمي وإن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل لا على ترك يقوم بنفسه ويسمون المذمية، لأنهم رتبوا الذم على العدم المحض.
بيان ألفاظ متعلقة بالترك:
أولاً: السكوت:
السكوت في اللغة: " هو ترك الكلام مع القدرة عليه ".
السكوت في الاصطلاح: " بنفس المعنة اللغوي، ولم يخصوه بمعنى آخر ".
ثانياً: الكف:
الكف في اللغة: " هو الدفع والمنع والرد، يقال: كففته عنه كفا أي: دفعته ومنعته وصرفته عنه، ومنه سميت اليد كفا، لأنها تكف عن صاحبها، أو يكف بها ما آذاه. والكف: الامتناع عن موالاة الفعل وإيجاده حالاً بعد حال.
علاقة الكف بالترك:
علاقة الكف بالترك على ثلاث أحوال:
أولاً: أن يكونا متقابلين: فيختص الكف بما توفر فيه القصد، والترك بما لم يكن كذلك.
ثانياً: أن يكونا مترادفين: فيكون كلا من الكف والترك بمعنى قصد عدم الفعل.
ثالثاً: أن يكون الترك أعم من الكف: فيكون الترك هو عدم فعل المقدور ويشمل ما لو قصد فيكون كفا، وما لم يقصد فيكون عدماً، وهذا هو الأقرب للاستعمال اللغوي.
وللحديث بقية
التعديل الأخير تم بواسطة محمد فرج الأصفر ; 01-29-2021 الساعة 09:48 PM.