الحمدُ لله الذي شرع لنا سُنن الهدى، وفَضَّلَنا بهذا الدِّين على سائِر الورى، وحقق لنا به مصالح الآخرة والأولى.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له ما في السموات وما في الأرض، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذي أحسنوا بالحسنى.
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، نبي الرحمة والهدى ، والرسول المجتبى، والقدوة المُثْلى، أكمل الناس خلقًا، وأتقاهم لربِّه سرًّا وجهرًا، وأرعاهم لحُقُوق العباد ظاهرًا وباطنًا وعلى آله وأصحابه مناراتِ الهُدى، ومصابيح الدُّجى، ومَن سار على نَهْجِهم واقتفى.
أمَّا بعـــــــــدُ:
فقد أَخْبَرَنَا اللهُ تعالى في محكم كتابه أنه لم يخلقنا عبثًا، ولم يتركنا سُدى، بل خَلَقَنَا لغايةٍ عظيمةٍ، وحكمةٍ جليلةٍ، ألا وهي طاعته وإخلاص العبودية له وحده: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[1]،
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ*لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}[2].
ولكن هذه العبوديَّة لا تَتَحَقَّق وتظهر إلاَّ بالابتلاء بأنواع الخير والشر؛
ولهذا قال ربُّنا عز وجل : {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[3]،
فدلتِ الآيةُ الكريمةُ على أن الإنسان إنَّما خُلق للابتلاء والامتحان، والابتلاء ليس مقصودًا لذاته، وإنَّما لما يترتَّب عليه من حصول العبودية أو عدمها، وقوتها أو ضعفها، وليتبين الصبور الشكور من الجزوع الكفور، والمؤمن الصادق من الدَّعيِّ المنافق، والمؤمن القوي منَ المؤمن الضعيف، ومن يراقب الله - تعالى - ويخافه ويرجوه، ممن لا يرجو ثوابه، ولا يخاف عقابه، ولا يوقِّر جنابه؛
ولهذا قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[4].
فبَيَّنَ الله عز وجل أنه يبتلي عباده بالخير والشر، وما يحبون وما يكرهون امتحانًا واختبارًا لهم، وتمحيصًا لإيمانهم، وكشْفًا لِمَعَادِنهم،
فالفتنة هي كير القلوب، ومسبار الاختبار، ومحكّ الإيمان، وبها يَتَبَيَّن الصادقُ من الكاذب، والبر منَ الفاجر، والمؤمن من الكافر، والطيب من الخبيث، وبها ينقسم المؤمنون إلى طبقات كثيرة، ومراتب مختلفة بحسب إيمانهم وجهادهم، وشكرهم وصبرهم؛ {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}[5]،
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[6].
وإنَّ من أعظم صور الابتلاء، وأكثرها تَكَرُّرًا وملابسة للإنسان، ابتلاء الخلق بعضهم ببعض، كما قال ربنا عز وجل : {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[7]،
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}[8]، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[9]،
{وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}[10].
فبَيَّنَ ربنا تبارك وتعالى أنه امتَحَنَ العبادَ بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة، فامتحن الوالد بولده، والولد بوالده، والزَّوج بزوجته، والزَّوجة بزوجها، والقريب بقريبه، والجار بجاره، والصَّاحب بصاحبه، والرَّاعي برعيَّته، والرعية براعيها،
والعلماء بالجهال، والجهال بالعلماء، والمرسلين بالمرسل إليهم، والمرسل إليهم بالمرسلين، والمسلمين بالكافرين، والكافرين بالمسلمين، والصَّالحين بالفاسقين، والفاسقين بالصَّالحين، والآمرين بالمعروف بمَن يأمرونَهم، والمأمورين بهم،
وامتحن الغني بالفقير، والفقير بالغني، والصغير بالكبير، والكبير بالصغير، والقوي بالضعيف، والضعيف بالقوي، والمعافى بالمبتلى، والمبتلى بالمعافى، والمرأة بالرجل، والرجل بالمرأة.
وهكذا فكل صنف منَ البَشَر مبتلى بمن يقابله، وممتحن بمن يعامله ويلابسه، هل يقوم بحقوقه، ويؤدي واجباته، ويحسن معاملته، وينصح له، ويكف الأذى عنه، ويتَّقي الله تعالى فيه ؟ أو أنه يظلمه ويهضمه، أو يحسده ويبغضه، أو يحقره ويتجاهله، أو يخذله ويسلمه، أو يشق عليه ويحزنه، أو ينتهك حرماته، أو يقصر في القيام بحقوقه وواجباته ؟
ومن أعْظَم صور امتِحان الخلق بعضهم ببعض: امتحان كلٍّ من الزَّوجين بالآخَر ؛ لأن العلاقة بينهما من أقوى العلاقات، والصلة بينهما تُراد للدَّوام حتى الممات، حق كلٍّ منهما على الآخر كبيرٌ وكثيرٌ.
ولما كثرت الخلافات الزوجيَّة، والمشكلات الأسرية، وارتفعتْ نسب الطلاق والشِّقاق؛ بسبب ضعْف الإيمان، ورقَّة الدين، وقلَّة الفِقْه والبصيرة، واتِّباع الهوى، والانشِغال بالدنيا،
كان الحديث عن فقه التَّعامل بين الزوجين، والتذكير بحق كل منهما على الآخر من الأمور الملحَّة، التي تمس الحاجة إلى معرفتها وبيانها، والتأكيد على أهميتها، وعظم شأنها، والترغيب في القيام بها، والتَّرْهيب من إهْمالِها، والتَّنكُّر لها.
ولهذا،
فلم أقتَصِر على مجرَّد بيان هذه الحقوق وشرْحِها، بل سلكتُ طريقةَ القُرآن والسنَّة في مخاطَبة العقول والقلوب، والاهتِمام بالتَّرغيب والتَّرهيب، وبيان الثَّمرات المفيدة، والعواقب الحميدة، لمن قام بِها على الوجْه المأْمور به شرعًا، وبيان العواقب السيِّئة في الدُّنيا والآخرة لِمن أهْملها أو قَصَّر فيها.
كما قدمتُ لذلك بتمهيد، أرى أنَّه غاية في الأهمية، بَيَّنتُ فيه عظم شأن حسن الخلق، وأهمية معاملة الناس بالمعروف، والبر بهم قولاً وفعلاً، ومخالقتهم بخلق حسن، وأن ذلك من أجلِّ العبادات، وأفضل الأعمال وأحبها إلى الله، وأزكاها عنده، وأحظاها لديه، وأن أحق الناس بذلك، وأحوجهم إلى المخالقة الحسنة: هم أهل الإنسان وقرابته ،
كما قال الرسول : (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم)[11].
فبَيَّنَ فضل حسن الخلق مطلقًا، وأن أكمل الناس إيمانًا أحسنهم خلقًا، ثم بَيَّن أن أعلى الناس رتبة في الخير، وأحقهم بالاتصاف به هو من كان خيرَ النَّاس لأهله، فإن الأهل هم الأحقَّاء بالبِشْر، وطيب المعاملة، ودماثة الخلق، وحسن المعاشرة، وجلْب النَّفع ودفع الضُّر، فإذا كان الرَّجُل كذلك فهو خير النَّاس، وإن كان على العكْس من ذلك، فهو في الجانب الآخَر من الشَّرِّ.
وكثيرًا ما يقع الناس في هذه الورْطة، فترى الرَّجُل إذا لقي أهله كان من أسوأ الناس أخلاقًا، وأضيقهم عطنًا، وأكثرهم منًّا، وأشحِّهم نفسًا، وأقلهم خيرًا، وإذا لقي غير الأهل من الأجانب لانت عريكته، وانبسطت أخلاقه، وحسنت معاملته، وجادت نفسه، وكثُر خيره.
ومن كان كذلك كان محرومًا من التوفيق، وزائغًا عن سواء الطريق، وهو دليل على جهله وقلَّة فقهه.
والنَّاظر في أحوال كثيرٍ من المسلمين اليوم يَجد تناقُضًا ظاهرًا بين ما أوصاهم به ربهم من رعاية حقوقه، وحقوق عباده، وبين ما هم عليه من تفريط في جنب الله، وعدم رعاية لحقوق عباد الله.
بل كثيرٌ من الناس يظنُّون أن التقوى هي القيام بحقوق الله تعالى دون حقوق عباده، وأنَّ الدين يقتصر على معاملة الخالق دون المخلوق، فيهملون حقوق العباد بالكليَّة، أو يقصرون فيها، ويستهينون بظُلم الناس وبخسهم حقوقَهم.
ومَن تَأَمَّلَ النصوص الواردة في الحثِّ على حسن الخلق، فإنه لا ينقضي عجبه من عظم شأنه، وعلو مكانته، ويدهش لكثرة ما رتِّب عليه من الأجْر والثَّواب، وما لصاحبِه من المدْح والثَّناء، ورِفْعة المنزلة، وحسن العاقبة في الدُّنيا والآخرة.
كما أنَّه يعجب من غفلةِ كثيرٍ من النَّاس عن هذا الخير، وتفريطهم فيه، وحِرْمانهم إيَّاه، مع أنَّه لا يكلِّفهم شيئًا يذكر، وبه يحصِّلون خيرَي الدُّنيا والآخرة.
ويا ليتَ هؤلاء إذْ قصَّروا في القيام بحقوق العباد، ومخالقتهم بخلق حسن، كفُّوا أذاهم عنهم، وطهَّروا أيديَهم وألسنَتَهم من الاستطالة عليهم، وبَخْسهم أشياءهم، ولكنَّهم - لسوءِ حظِّهم وقلَّة توفيقهم - لا يتورَّعون عن ظُلْمِهم، والتعدِّي على مصالحهم، ومطْلهم حقوقهم، فجمعوا بين سيِّئَتين، واحتملوا جرْمَين عظيمين، ووقعوا في ظُلم العباد من جهتين: جهة إيذائهم والعدوان عليهم، وجهة التقصير في حقوقهم وما يجب لهم، ويغفلون عما يستوجبه ذلك من الإثم والشُّؤم، والعقوبات العاجلة والآجلة، وما ورد فيه من الوعيد الشديد الذي تقشعرُّ له الجلود المؤمنة، وترجُف له القلوب الحيَّة خشيةً ورهبةً.
وقد انتظم البحث في مقدِّمة، وخاتمة، وتمهيد، بعنوان: "الدين حسن المعاملة"، وأربعة مباحث على النَّحو التالي:
المبحث الأول : الحقوق المشتركة بين الزَّوجين.
المبحث الثاني : الحقوق الخاصَّة بالزَّوجة.
المبحث الثالث : الحقوق الخاصَّة بالزَّوج.
المبحث الرابع : نصائح أبويَّة غالية.
هذا، وأسأل الله تعالى أن يجعلَ هذا العمل خالصًا لوجْهِه، نافعًا لعباده، ذخرًا لي يوم لقاه، وأن يغفر لي ما كان فيه من خطأ أو تقصير، إنه هو الغفور الشكور.
تمهيد : الدين حسن المعاملة
حياة الإنسان في هذه الدنيا دائرةٌ بين معاملة الحقِّ سبحانه، ومعاملة الخلق منَ الإنس والجن، والحيوانات والنباتات، والجمادات وغيرها، وعلى حسَب هذه المعاملة يكون جزاء الإنسان في الدُّنيا والآخرة،
فإذا أحسن في معامَلة الله عزَّ وجلَّ بأن أحبَّه وعَظَّمَه، وشكر آلاءَه ونِعمه، وأطاع أوامرَه، واجتنب نواهيَه، وأحسن في معاملة الخلْق كما أمره الله،
فاجتهد في النُّصح لهم، والإحسان إليْهم، والعدل في معاملتهم والرِّفق بهم، والتلطُّف معهم، واحتِمال الأذى منهم، وكف الظُّلم عنهم،
فإنَّه يفوز بسعادة الدُّنيا والآخرة، وترتفع منزلتُه عند الله تعالى، وعند النَّاس، ويوضع له القَبول في الأرض، والمحبَّة في قلوب الخَلْق.
ولقد قرن الله تعالى حقَّ الخلق بحقِّه، وَأَمَرَ بالإحسان إليْهم بعد الأمْرِ بعبادته، وذلك في آياتٍٍ كثيرة من كتابِه، وعلى لسان رسولِه .
قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[12]،
إلى قوله: {وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}[13]،
فَأَمَرَ بعبادته وحْدَه لا شريك له، وبالإحسان إلى الوالدين اللذين هما أقربُ الناس نسبًا، وأمسهم رحمًا، وأحقهم بالبرِّ وحسن الصُّحبة، وأمر بإيتاء القرابة والمحتاجين حقوقهم.
وقال سبحانه : {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[14]،
فأَوْصَى بعبادته، وبالإحسان إلى خلقِه من الوالدين، والقرابة، والجيران، والأصحاب، والضعفاء، والمساكين، والآية عامَّة في جميع المذكورين، من المسلمين والكافرين، والصَّالحين والفاسقين، والقريبين والبعيدين، فكلُّهم يجب العدل في معاملتهم، والإحسان إليهم، وإن كان حق المسلم أعظم من حقِّ الكافر، وحق القريب آكَد من حقِّ البعيد، فكلٌّ يجب له من البرِّ والإحسان بحسب قربة ومنزلته، وعلى قدر حاجته وما يناسبه.
وعلى هذا تواطَأَتْ رسالات السماء، وأوصتْ به جميعُ الأنبياء؛
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[15]؛
أي: أخذ الميثاق عليهم على ألسنة أنبيائِهم أن يعبدوه وحده لا شريك به، وأن يُحسنوا إلى الوالدين والأرحام واليتامى والمساكين، بكلِّ قول وفِعْل جميلٍ، ثم أَمَرَ بالإحسان إلى الناس عمومًا،
فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[16]؛ أي: قولاً حسنًا، لطيفًا رفيقًا، طيبًا مفيدًا، وهذا عامٌّ في القريب والبعيد، والبر والفاجر، والمسلم والكافر، إلا أن يكونَ محاربًا؛
قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}[17].
وقد حذف المعمول في قوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ}؛ ليشمل كلَّ أنواع البرِّ والإحسان، بالقول والفعل، وإذا كنَّا مأمورين بالإحسان في معامَلة الكفار، والبر بهم قولاً وفعلاً، تأليفًا لقلوبهم، وترغيبًا لهم في الإسلام، فكيف بالمسلمين الحنفاء ؟
بل كيف بالزَّوج المُسلم، الذي له حقُّ الإسلام وحق الزوجيَّة أيضًا .
فالقولُ الحَسَن يؤنس النفوس، ويفتح مغاليق القلوب، ويعين على قَبول الحق والانقياد له، ويورث المحبَّة والتقدير لصاحبه، وهو يدلُّ على سموِّ نفسه، وحسن خلقه، وعفَّة لسانه، وهذا ما يجب أن يكونَ عليه المسلمُ،
فإنَّ النبي قال: (ليس المؤمن بالطَّعَّان، ولا اللَّعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء)[18].
وفي الصَّحيحين: عن عَائشة رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا: السَّام عليكم، فقالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللَّعنة، قالتْ: فقال رسول الله : (مهلاً يا عائشة، إن الله يحبُّ الرِّفق في الأمر كله)، فقلتُ : يا رسول الله أَوَلَم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله قد قلت : (وعليكم) [19]،
وفي رواية لأحمد وابن خُزَيمة: فنظر إليَّ، فقال: (مَه، إن الله لا يحبُّ الفُحش ولا التَّفَحُّش، قالوا قولاً فرددناه عليهم، فلم يضرَّنا شيء، ولزمهم إلى يوم القيامة)[20].
فالحلم والأناة، والتلطُّف والترفُّق، والبشاشة وطلاقة الوجه، ولين الجانب وحسن المعامَلة، والصبر واحتمال الأذى، من أبرز الصفات التي تجمع لصاحبها خيري الدنيا والآخرة،
وهي مع عظيم نفعها، وجميل عائدتها، وحُسن عاقبتها، لا تكلِّف صاحبها شيئًا يُذكر، ولذلك قال النبي : (إنَّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بَسْط الوجه، وحُسن الخُلُق) [21].
ثم إنَّ الله تعالى أَكَّد الأمر بعبادته والإحسان إلى خلقه، بقوله في آخر الآية: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[22]،
فإنَّ الصَّلاة عبادة خالصة لله، والزَّكاة عبادة متضمِّنة للإحسان إلى الناس[23].
وقد بَيَّن اللهُ تعالى منهج التَّعامل مع الناس في آية مختصرة جامعة، فقال سبحانه: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}[24].
قال جعفر الصَّادق: "أَمَرَ الله نبيَّه بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية"[25].
وذلك أنَّها تَضَمَّنَتِ الإحسانَ إلى الناس بالرِّفق في مُعاملتهم، والتَّيْسير عليهم، والنُّصح لهم، والإعراض عن جاهلهم، ومنها يؤخَذ أن للمسلم في تعامله مع الناس ثلاثة أحوال:
الأول: أن يأخذ منهم ما سهل عليهم، وطوعت به نفوسهم، وتيسر لهم بذله من أموالهم وأخلاقهم وأعمالهم،
وأن يتركَ الاستقصاء عليهم، والتفتيش عن بواطنهم، ويلتمس المعاذير لهم، ولا يجهدهم ويشق عليهم، ويحملهم على الشطط والعَنَت، فيؤذيهم ويحرجهم.
قال عبدالله بن الزُّبَير رضي الله عنهما : أَمَرَ اللهُ نبيه أن يأخذَ العفوَ من أخلاق الناس، وقال مُجاهد: يعني خُذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تحسُّس [26].
الثاني : أن يأمرَهم بالمعروف، وينْهاهم عن المُنكر؛ لأنَّ عاقبة ذلك صلاحُ أمرهم في دنياهم وآخرتهم.
الثالث : أن يُعْرِضَ عنِ الجاهلين، ويصفح عنهم، ولا يشغل نفسه في الانتقام منهم، ومطاولتهم والرَّد عليهم، ومقابَلة جهلهم وسفههم.
قال ابن العربي : "قال علماؤنا : هذه الآية من ثلاث كلمات، قد تضمنتْ قواعد الشريعة المأمورات والمنهيَّات، حتى لم يَبقَ فيه حسنةٌ إلا أوضحتها، ولا فضيلةٌ إلا شرحتها، ولا أُكرومة إلا افتتحتها، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة،
فقوله: {خُذِ العَفْوَ}: تولَّى بالبيان جانبَ اللين، ونفي الحرج في الأخْذ والإعطاء والتكليف.
وقوله: {وَأْمُرْ بِالعُرْفِ}: تناول جميع المأمورات والمنهيات، وإنهما ما عُرف حكمه، واستقرَّ في الشريعة موضعُه، واتفقتِ القلوب على علمِه.
وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}: تناوَلَ جانب الصَّفْح بالصبر الذي به يَتَأَتَّى للعبد كل مراد في نفسه وغيره"[27].
وقال ابن القيم: "فلو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفَتْهم وشفَتْهم، فإنَّ العفو ما عفا مِن أخلاقهم، وسمحت به طبائعهم، ووسعهم بذلُه من أموالهم وأخلاقهم.
فهذا ما منهم إليه، وأما ما يكون منه إليهم فأَمْرهم بالمعروف، وهو ما تشهد به العُقُول، وتعرف حسنه، وهو ما أَمَرَ الله به، وأما ما يُتَّقَى به أذى جاهِلهم، فالإعراضُ عنه، وترك الانتقام لنفسه، والانتصار لها.
فأيُّ كمال للعبد وراء هذا ؟
وأية معاشرة وسياسةٍ لهذا العالَم أحسن مِن هذه المعاشَرة والسياسة ؟
فلو فكَّر الرجل في كل شر يلحقه من العالَم - أعني : الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرِّفعة والزلفى من الله - وجد سببه الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها، وإلاَّ فمع القيام بها، فكلُّ ما يحصل له من الناس فهو خير له، وإن كان شرًّا في الظاهر، فإنه يتولَّد من الأَمْر بالمعروف، ولا يتولَّد منه إلا خير، وإن ورد في حالة شرٍّ وأذى"[28].
ولو لم يرد في الدلالة على أهمية حسن الخلق، وعظيم أثره، وشدة الحاجة إليه، إلا آية (آل عمران)، لكان ذلك كافيًا،
قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[29].
فإذا كان رسولُ الله هو الذي أوتِي كلَّ مقومات المحبة والقَبول،
ومحبته مُقَدَّمة على محبة النفس والأهل والناس أجمعين، وهو سيِّد ولد آدم، وأفضل من مَسَّ الثرى، وحملتْه المطايا،
وهو أرفع الناس نسبًا، وأكرمهم أصلاً ومحتدًا، وأجملهم مظهرًا وجوهرًا، وأرجحهم رأيًا وعقلاً، وأحسنهم بيانًا ومنطقًا، وأبلغهم حجَّة وبُرهانًا، وأتقاهم لربِّه سرًّا وجهارًا، وأعلاهم منزلة ومكانًا، وأنداهم يدًا، وأجزلهم عطاء،
وهو رئيس الدولة وقاضيها وقائدها، ورسول رب العالمين ووليُّه وخليله،
وصحابته رضي الله عنهم هم أفضل هذه الأمة بعده، وأكمل النَّاس محبةً له،
ومع كلِّ ذلك يُقال له: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}!
فكيف بغيره من البشَر، وهم دونه بمراحل كثيرة، وليس لهم من مقوِّمات المحبة والقَبول، ووُجُوب السَّمع والطَّاعة ما جعله الله له؟ فما أحوجَهم إذًا إلى تَرْك الفظاظة والغِلظة، والبعد عن الجفاء والقسوة، واستعمال الرفق واللين.
ولذا كان النبيُّ يُبايِع أصحابَه على القيام بحقِّ الله تعالى والنُّصح لعباده؛
فقد روى البخاري ومسلم، عَنْ جَرِير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: "بايَعْتُ رسول الله ص على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنُّصح لكلِّ مسلم"[30].
فبايعه على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهما أظهر العبادات، وأهم أركان الإسلام بعد الشهادتينِ، والقيام بهما عنوان الاستقامة على طاعة الله تعالى،
وبايعه على النُّصح لكلِّ مسلم، والنُّصح لا يقتصر على مجرد الوعظ بالقول، كما قد يتبادر إلى الذِّهن، بل يعني إيصال كل ما أمْكَن من الخير، ودفع كل ما أمكن منَ الشر، بالقول والفعل، فجمع عليه الصَّلاة والسَّلام بَيْن الأمر بطاعة الله والإحسان إلى خلقه.
وعن أبي ذر رضِي الله عنه قال : قال لي رسول الله : (اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنة تَمْحُها، وخالق الناس بِخُلُق حَسَن)[31].
وهذا حديثٌ عظيمُ الشأن، جليل القدر، قد تضمَّن - على وجازة لفظه - بيانَ واجب العبد تجاه ربِّه، وتجاه نفسِه، وتجاه الناس.
أما واجبه تجاه ربه، فهو أن يتَّقيه في السر والعلن، وفي كلِّ مكان وزمان، وذلك بطاعته، واجتناب معصيته، وشُكر نعمه.
وأمَّا واجبه تجاه نفسه، فهو أن يقيمَها على طاعة الله تعالى، ولا يعرِّضها لسخطه ومقته، وشؤم الذَّنب، وسُوء عاقبته؛ فإذا فرطت منه السيئة، أتْبعها بالحسنة، لتزيل أثرها من القلب، وتمحوها من ديوان الحَفَظَة، فإنَّ الخيرَ يرفع الشَّر، والنور يزيل الظُّلمة، والمرض يعالج بضدِّه، والحسنات يذهبن السيئات.
وأما واجبُه تجاه النَّاس، فهو أن يعاملَهم بخُلُق حَسَن، ويُعاشِرهم بالمعروف، فيُحْسن إليهم، وينصح لهم، ويكفّ الأذى عنهم، ويتحمَّل الأذى منهم، ويحرص على إيناسهم، وإدخال السرور عليهم، ويكون طلْق المُحَيَّا، باسم الثغر، لين الجانب، نديَّ اليد، لطيف المعامَلة، أليفًا مألوفًا، رفيقًا عطوفًا، عفيفًا شريفًا.
ولا شكَّ أنَّ مخالَقة النَّاس بخُلُق حسن جزْءٌ مهم من التَّقوى، بل لا تتم التقوى إلا به، ولكنَّ النَّبيَّ خصَّه بالذِّكر؛ اهتمامًا بشأنه، وتنويهًا بفضله، وتنبيهًا على أهميته، وشدة الحاجة إليه.
قال ابن رجب: "قوله: (وخالق الناسَ بخُلُق حسن)، هذا من خصال التَّقوى، ولا تتمُّ التَّقوى إلاَّ بِه، وإنَّما أفْرَدَه بالذِّكر للحاجة إلى بيانه، فإنَّ كثيرًا من النَّاس يظنُّ أنَّ التَّقوى هي القيامُ بحقِّ الله دون حقوق عباده، فنَصَّ له على الأمر بإحْسان العِشرة للنَّاس،
فإنَّه كان قد بعثه إلى اليمن مُعَلِّمًا لهم، ومفقِّهًا وقاضيًا، ومَن كان كذلك فإنَّه يَحتاج إلى مخالَقة الناس بخُلُق حسن ما لا يحتاج إليه غيره ممن لا حاجة للناس به ولا يخالطهم،
وكثيرًا ما يغلب على مَن يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعِكاف على محبَّته وخشْيته وطاعته إهمالُ حقوق العباد بالكليَّة أو التقصير فيها، والجمعُ بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جدًّا، لا يقوى عليه إلا الكُمَّلُ من الأنبياء والصديقين"[32].
وإنك لتعجب من أناس يحرصون على أداء الشعائر التعبديَّة، ويلتزمون بالمظاهر الشرعية، ويجتهدون في نوافل العبادات، من صلاة، وصيام، وتلاوة، وذِكر، وغيرها،
ولكنَّهم لا يُولون جانب المعامَلة للخَلْقِ اهتمامًا يُذكر، ولا يرَوْن لِحُسن الخلق مكانة تُعتبر، فتجد عند بعضهم - مع الأسف - منَ الحِقْد والحسد، والعجب والكبر، والظلم والبخس، والبغْضاء والشحناء، والتَّهاجُر والتَّدابُر، والكذِب والتَّدليس، والغشّ والمخادَعة، وإخلاف الوعود، ونقض العهود، والقطيعة والعقوق، ومطْل الحقوق، وأكْل أموال النَّاس بالباطل، وخيانة الأمانة، والولوغ في أعْراض الناس، والسَّعي بالنميمة والإفساد، وتتبُّع العورات، والتدخُّل فيما لا يعني، ما يتنافى وكمال الإيمان، ويتناقَض مع ما هم عليه من مظاهر الصلاح والديانة.
وكأن معاملة الخلق ليستْ من الدين، أو أن صاحب الخُلُق الحَسَن ليس بمأجورٍ ولا مشكور، وصاحب الخلق السَّيئ ليس بمذمومٍ ولا مأزور،
أو كأنَّ ظلمَ الناس لا حرج فيه ولا بأس، مع أنَّ ظُلمهم أشد من ظُلم العبد لنفسه؛ إذ حقوق العباد مبنية على المشاحة والمقاصة، وحُقوق الله تعالى مبنيَّة على المسامحة والمساهَلة،
ومَن فرط في جنب الله كان بإمكانه أن يستعتب ربَّه متى شاء، لكنه إذا ظَلَمَ الناس لم يضمنْ أن يحلوه ويسامحوه في ظُلمه لهم، وتعدِّيه على حقوقهم،
بل إن حقوق العباد يجتمع فيها حقُّ الخالق وحق المخلوق، فالله تعالى لا يرضى لعبادِه الظُّلْم، وأحب الناس إليه أنفعهم لعبادِه، وأرعاهم لحقُوقِهم، وأقومهم بمصالحهم.
والحقيقةُ : أنَّ هؤلاءِ يهدمون ما يبْنون، ويفسدون ما يعملون، ويحبطون حسناتهم مِن حيث لا يشعرون، فهم يجتهدون في أداء الفرائِض والنوافل نهارهم وليلهم،
وقد يصبح الواحد منهم ولا حسنة له، ويجمعون حسناتٍ كأمثال الجبال من صلاة، وصيام، وصدقة، وذِكر، وغيرها، ثم يذهبونها بأنواع منَ الكبائر المتعلِّقة بظُلم الخَلْق، وسوء معاملتهم،
وربَّما عند المعادَلة لا تقوم أُجُور صلواتِهم وطاعاتِهم بإثمِ ظُلمهم للعباد، ومطلهم حقوقهم.
وهذه وربِّي هي النَّكسة المرْدِية، والخسارة الفادِحة، والغبن الفاحش، والإفْلاس الذي ليس بعده إفلاس، وقد نَبَّه عليْه النَّبيُّ ناصِحًا ومحذِّرًا أمَّته، فقال: (أتدْرون ما المُفلس؟)، قالوا: المُفْلس فينا مَن لا دِرْهَم له ولا متاع، فقال: (إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأكَل مالَ هذا، وسفَك دم هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإنْ فنيتْ حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطرحتْ عليه، ثم طُرح في النار)[33].
قال النَّوويُّ: "معناه: أنَّ هذه حقيقة المفلس، وأمَّا مَن ليس له مال، ومن قلَّ مالُه فالنَّاس يسمُّونه مفلسًا، وليس هو حقيقة المفلس؛ لأنَّ هذا أمرٌ يزول وينقطع بموته، وربَّما ينقطع بيسار يَحصُل له بعد ذلك في حياته، وإنَّما حقيقة المفلس هذا المذكور في الحديثِ، فهو الهالكُ الهلاك التَّام، والمعدومُ الإعدام المُقَطَّع،
فتؤْخَذ حسناتُه لغرمائِه، فإذا فرغت حسناته أُخِذ مِن سيِّئاتهم فوضع عليه، ثم أُلْقيَ في النَّار، فتمَّت خسارته وهلاكه وإفلاسه"[34].
وبَيَّنَ عليه الصلاة والسلام أثر سوء الخُلُق في إفساد الأعمال الصَّالحة،
فقال: (وإن سوء الخلق ليفسد العمل، كما يفسد الخل العسل)[35].
ويؤكِّد لك هذا أيضًا حديث أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قيل للنَّبيِّ : إن فلانة تصوم النهار، وتقوم الليل، وتؤذي جيرانها بلسانها، قال: (لا خير فيها، هي في النار)، قيل: فإنَّ فلانة تصلِّي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدَّق بأثوار من أقط[36]، ولا تؤذي جيرانها، قال: (هي في الجنة)[37].
فتأمَّل حال المرْأة الأولى، حيثُ لم ينفعْها صيام النَّهار، وقيام اللَّيل، ولم يُنجِها من النَّار؛ لأنَّها كانت تؤْذِي جيرانَها، فبطل ثوابُها، ومُحِق أجرُها، واستَحَقَّت النَّار، ونُفِيَتْ عنها الخيريَّة - والعياذ بالله -
وأمَّا الثَّانية، فإنَّها لم تكن تصوم النَّهار، وتقوم اللَّيل، ولكنَّها لا تؤْذِي جيرانَها، فصارتْ من أهل الجنة.
وفي مقابل هؤلاء طائفة أخرى، ليسوا في منزلتهم من الالتزام بالمظاهر الشرعية، والحرص على أداء الشعائر التعبديَّة،
ولكنَّهم حريصون على معاملة الناس بالحسنى، ومعاشرتهم بالمعروف، من أجل كسب مودَّتهم، والحظوة عندهم، واتِّقاء شرِّهم، فهم يفعلون ذلك من أجل الدُّنيا، ولا يحتسِبون الأجر فيه من الله تعالى.
وينسى هؤلاء وأولئك أو يَجهلون أنَّ الخُلُق الحسن عبادةٌ من أجلِّ العبادات، وقُربةٌ من أعظم القُرُبات، وعملٌ من أحبِّ الأعْمال إلى الله، وأزْكاها عنده، وأحْظاها لديه،
فكان الواجبُ على كل مسلم أن يحرص عليه، ويجتهِد في التخلُّق به، ويحتسِب الأجر فيه عند الله تعالى، ويكون له فيه نيَّة صالحة تجعل خُلُقَهُ هذا عبادة تضاعَف له بها الحسنات، ويبلغ بها أعْلى الدَّرجات، مع ما يحصله تبعًا لذلك من محبَّة النَّاس وتقديرهم،
فإنَّ النُّفوس جُبِلت على حبِّ مَن أحسن إليْها، وبُغض مَن أساء إليْها، والخُلُق الحسن يغطي المثالب، ويدفن المعايب.
ومن تأمَّل النصوص الواردة في الحثِّ على حسن الخلُق، فإنَّه لا ينقضي عجبُه من عظم شأنه، وعلو مكانتِه،
ويدهش لكثرة ما رتِّب عليه منَ الأجْر والثَّواب، وما لصاحبه من المدْح والثَّناء، ورفعة المنزلة، وحسْنِ العاقبة في الدُّنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}[38].
وجميع هذه الصفات التي جَعَلَهَا الله سمات للمتقين داخلةٌ في حُسن الخُلُق، وطيب المعاملة للخَلْق، والبر بهم، بالإنفاق على محتاجهم، وكظْم الغيظ عن مخطئهم، والعفو عمن زل منهم، والإحسان إليهم بكلِّ قول جميلٍ، وفعلٍ حميدٍ،
فجمع بين وصفهم ببذل النَّدى، واحتمال الأذى، وهذا هو غاية حُسن الخُلُق[39].
وبَيَّن - سبحانه - في آيات أُخَر أنَّ حسن المعاملة مع الناس من أخصِّ أوصاف المؤمنين، التي نالوا بها الفلاح في الدنيا والآخرة، وبها صاروا في الدرجات العلى منَ الجنة ؛
فقال : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[40].
ولو تأمَّلت هذه الأوْصاف الستَّة التي استحقُّوا بها تلك المنازل العالية، لوجدت أربعة منها تَتَعَلَّق بمعاملة الخَلْق، والإحسان إليْهم، ورعاية حقوقهم، وصيانة أعراضهم وحُرُماتهم.
وممَّا يدلُّ على أهمِّيَّة حسن الخُلُق، وعِظَم شأنه: أنَّ الله تعالى وصف به أكرم خلقه، وأثنى عليه به؛ فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[41]،
وهذا كما أنه شهادة جليلة من ربِّ العزة سبحانه، ومدح عظيم لرسولِه فإنَّه يدلُّ على عِظَم مكانة الخُلُق الحسن عند الله، وشدَّة احتفائِه بصاحبه، ومحبته له.
وفي الصحيحين: عن أنسٍ رضي الله عنه قال: "كان رسول الله أحسن النَّاس خُلقًا"[42].
وقال أيضًا: "ما مسستُ ديباجًا ولا حريرًا ألين من كفِّ رسول الله ولا شممتُ رائحةً قطُّ أطْيب من رائحةِ رسول الله ولقد خدمت رسول الله عشْر سنين، فما قال لي قط : أُفٍّ، ولا قال لشيء فعلتُه: لم فعلْتَه؟ ولا لشيءٍ لم أفعله: ألا فعلتَ كذا؟[43].
وفي رواية لأبي داود : خدمتُ النَّبيِّ عشْر سنين بالمدينة، وأنا غلام، ليس كلُّ أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليْه، ما قال لي فيها: أف قط، وما قال لي: لم فعلت هذا؟ أو: ألا فعلت هذا؟[44].
فيا لله للعجب! يظل ملازمًا له عشر سنين وهو يخدمه، وهو بشر يجري عليه ما يجري على البشر من الغفلة والنِّسيان، والتقصير والخطأ، ومع ذلك لم يسمع منه طيلة هذه المدة كلمة تأفُّفٍ وتبرُّم، أو كلمة عتاب وتوبيخ، أو حتَّى كلِمة استنكار وتوجيه.
ولو قارنتَ هذا بحال كثيرٍ منَ النَّاس اليومَ مع خدمهم وعمَّالِهم، بل حتَّى مع أهليهم وأوْلادهم، لوجدتَ الفرْق واسعًا والبوْن عظيمًا شاسعًا، فالله المستعان.
وتقول عائشة رضي الله عنها : "ما ضَرَب رسولُ الله شيئًا قطُّ بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا، إلاَّ أن يُجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيءٌ من محارم الله، فينتقِم لله عزَّ وجلَّ"[45].
وكان عليْه الصَّلاة والسَّلام في معاملتِه للنَّاس، يأخُذ بأيْسَر الأمور وأوسعِها ما لم يكن إثمًا، فلا يكلِّفُهم شططًا، ولا يبغيهم حرجًا، ولا يحملهم مشقة وعنتًا.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : "ما خُيِّر رسول الله بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى"[46].
والأحاديث في حُسن خُلُقِه ودماثة معشره، وطلاقة وجهه، وكرمه وسماحته، ورأفته ورحمته، وحلمه وأناته، وتيسيره وتبشيره، وإخلاصه ونصحه، ورفقه برعيته، وحسن سيرته مع أصحابه، وتميُّز تعامله مع زوجاته، وعدله مع أعدائه، وإنصافه من نفسه - أمرٌ يطول شرحه، وشهرته تغني عن الإطالة في ذكره وتفصيله، ولو ذهبنا نجمع ما ثَبَتَ عنه في ذلك، لكتبنا فيه مجلدات كثيرة.
ولا غرو في ذلك؛ فهو الأُسوة الحسنة، والقدوة المتَّبَعة، والإمام المقتفى، والهادي لأقوم السبل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}[47].
ـــــــــــــــــــ
[1] سورة الذاريات؛ الآية: 56.
[2] سورة الأنعام؛ الآيتان: 162- 163.
[3] سورة الإنسان؛ الآية: 2.
[4] سورة الأنبياء؛ الآية: 35.
[5] سورة الأنعام؛ الآية: 132.
[6] سورة آل عمران؛ الآية: 163.
[7] سورة الفرقان؛ الآية: 20.
[8] سورة الأنعام؛ الآية: 53.
[9] سورة الأنفال؛ الآية: 28.
[10] سورة محمد؛ الآية: 4.
[11] رواه أبو داود (4682)، والترمذي (1162)، وأحمد (7396، 10110، 10829)، والدارمي (2792)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (20572)، وابن حبان (479، 4176)، والحاكم (1، 2) وصححه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
[12] سورة الإسراء؛ الآية: 23.
[13] سورة الإسراء؛ الآية: 26.
[14] سورة النساء؛ الآية: 36.
[15] سورة البقرة؛ الآية: 83.
[16] سورة البقرة؛ الآية: 83.
[17] سورة الممتحنة؛ الآية: 8.
[18] رواه الترمذي (1977)، وأحمد (3839)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10580)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10483)، وأبو يعلى (5088)، وابن حبان (192)، والحاكم (29) وصححه، وقال الترمذي: حديث حسن.
[19] صحيح البخاري (5678)، وصحيح مسلم (2165).
[20] مسند أحمد (13555، 24895)، وصحيح ابن خزيمة (547).
[21] رواه أبو يعلى (6550)، والحاكم (428)، وصححه، ونسبه ابن حجر إلى البزار، وحسن إسناده، فتح الباري 10/459.
[22] سورة البقرة؛ الآية: 83.
[23] انظر: تفسير ابن كثير 1/172، وتفسير السعدي ص39.
[24] سورة الأعراف؛ الآية: 199.
[25] تفسير القرطبي 7/345.
[26] انظر:" تفسير الطبري" 9/104، و"مدارج السالكين" 2/304 - 305.
[27] "أحكام القرآن" 2/826.
[28] "زاد المهاجر إلى ربه" ص75 - 76.
[29] سورة آل عمران؛ الآية: 159.
[30] صحيح البخاري (57)، وصحيح مسلم (56).
[31] رواه الترمذي (1987)، وأحمد (21392، 21441، 21576)، والدارمي (2791)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قلت: وله شاهد من حديث معاذ، رواه أحمد (22039، 22112)، والطبراني في "المعجم الصغير" (530، و"المعجم الكبير" (269، 297).
[32] "جامع العلوم والحِكَم" 1/454.
[33] رواه مسلم (2581).
[34] شرح النووي على صحيح مسلم (16/135- 136).
[35] سيأتي الحديث بتمامه (ص19).
[36] الأثوار، بالثاء: جمع ثور، وهي قطعة من الأقط، والأقط - بفتح الهمزة وكسر القاف وبضمها أيضًا، وبكسر الهمزة والقاف معًا وبفتحهما: هو شيء يتخذ من مخيض لبن الأغنام. "الترغيب والترهيب" 3/242.
[37] رواه أحمد (9673)، وابن حبان (5764)، والبخاري في "الأدب المفرد" (119)، والحاكم (7304، 7305)، وقال: صحيح الإسناد، ووافَقَهُ الذَّهَبي: وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/242): "رواه أحمد، والبزار، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ورواه أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح أيضًا".
[38] سورة آل عمران؛ الآيتان: 133 - 134.
[39] انظر: "جامع العلوم والحكم" 1/412.
[40] سورة المؤمنون، الآيات: 1-11.
[41] سورة القلم؛ الآية: 4.
[42] رواه البخاري (5850)، ومسلم (2150).
[43] رواه البخاري (5691)، ومسلم (2309).
[44] سنن أبي داود (4774).
[45] رواه مسلم (2328).
[46] رواه البخاري (3367)، ومسلم (2327).
[47] سورة الأحزاب؛ الآية: 21.