الحمد لله الذي نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته حججاً ، وحجب العقول والأبصار أن تجد إلى تكييفه منهجاً وأوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجاً ، وجعل لمن لاذ به واتقاه من كل ضائقة مخرجاً ، وأعقب من ضيق الشدائد وضنك الأوابد لم توكل عليه فرجاً ، وجعل قلوب أوليائه متنقلة من منازل عبوديته من الصبر والتوكل والإنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجإ والافتقار في كل وقت هجرة إليه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا سمي له ولا كفو له ولا صاحبة له ولا ولد ولا شبيه له ولا يحصي أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه خلقه ، شهادة من أصبح قلبه بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته مبتهجاً ، ولم يدع إلى شبه الجاحدين المعطلين معرجاً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده ، أرسله رحمة للعالمين ، وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين.
اصطلاحاً : عرّفها غير واحد بأنها ترك دار الكفر والخروج منها إلى دار الإسلام. وأعم منه ما قاله الحافظ ابن حجر : " الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه"
وللهجرة في معناها الاصطلاحي مجموعة من المعاني:
تغييـر المكان : من مفاهيم ومدلولات كلمة الهجرة تغيير المكان؛ قال تعالى:(وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) النساء:100. هذه الهجرة بمفهومها الكبير، أن الإنسان إن ضاقت عليه السبل في أرض ما فعليه أن يهاجر وتتحول إلى مكان آخر حتى تجد فرجة وسعة من هذا اليأس والضيق.
هجرة الكفار : قال الله:(وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) المزمل: 10.
قال المفسرون: "الهجر الجميل هو الذي لا أذى معه، والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه". فالإنسان الصابر لا يشتكي ولا يُعرِب عن ألمه من هذا الصبر، إنما يتعبّد الله سبحانه وتعالى بصبره. والهجر الجميل أن تهجر من تريد هجراً مباحاً دون أن تسيء إليه أو تتعرض له بأذى". هجرة الذنوب والمعاصي : قال الله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) المدثر:5.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجَر ما نهى الله عنه " متفق عليه.
فالمهاجر هو من ترك المعاصي والذنوب، وتخلى عن الآثام.
لاهجرة بعد الفتح
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح :" لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفرتم فانفِروا" رواه الشيخان
شرح الحديث
معناه عند أهل العلم : لا هجرة من مكة بعد ما فتحها الله على نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس المعنى نفي الهجرة بالكلية ، لا، المراد لا هجرة بعد الفتح يعني من مكة إلى المدينة ؛ لأن الله جعلها دار إسلام بعد فتحها، فلم يبقَ هناك حاجة إلى الهجرة منها فالمسلمون فيها يبقون فيها، أما الهجرة نفسها فهي باقية؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر الصحيح : (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة)، فمن كان في بلاد الشرك واستطاع أن يهاجر فعليه أن يهاجر، كما قال الله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا)النساء: 97-99 ،
قال الحافظ بن كثير: إن الآية تدل على وجوب الهجرة، قال : وذلك مجمع عليه بين أهل العلم، أن الهجرة واجبة على كل من كان في بلاد الشرك، وهو لا يستطيع إظهار دينه فإنه يلزمه أن يهاجر إلى بلاد إسلامية أو إلى بلاد يستطيع فيها إظهار الإيمان إلا من عجز كما قال سبحانه وتعالى: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً يعني بالنفقة وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)
أي : لا يدرون الطريق لا يعرفون الطريق حتى يذهبوا فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ عسى من الله واجبة، المعنى فأولئك معفوٌ عنهم، الرجل العاجز والمرأة العاجزة ، وهكذا الولدان الصغار تبع لغيرهم ليس لهم طاقة إلا بالله ثم بأهليهم، فإذا كبروا وكلفوا وجب عليهم أن يهاجروا إن استطاعوا من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، من بلاد يعجز فيها عن إظهار دينه إلى بلاد يستطيع فيها إظهار دينه، ومعنى إظهار الدين يعني الدعوة إلى توحيد الله والإخلاص لله وإقام الصلاة وإقامة الشعائر الدينية، فإذا كان يستطيع ذلك في البلاد التي فيها كفر لم تجب عليه الهجرة، إن استطاع إظهار دينه بأن يعبد الله وحده ويدعو إلى التوحيد وينبذ الشرك ويأمر بالصلاة ويصلي إلى غير هذا فلا حرج عليه، لكن إن كانت إقامته في بلاد الشرك أنفع للمسلمين وأصلح أقام وإلا هاجر ابتعاداً عن الخطر وحذراً من الفتنة، ولهذا يشرع بعث الدعاة إلى بلاد الكفر حتى يدعوا الناس إلى توحيد الله وحتى يعلموا الناس شريعة الله، إذا كانوا أهل علم وفضل ولا يخشون على أنفسهم الفتنة، فإن ذهابهم إلى بلاد الكفار للدعوة والتوصية بالحق والتوجيه إلى الخير أمر مطلوب ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال ابن باز: رحمه الله " تدخل الأقليات الإسلامية في هذا الحديث تدخل كالبلاد، الأقلية كالقرية إذا كان الأقلية يظهرون دينهم ويستطيعون إقامة الشعائر الدينية من توحيد الله وإقامة الصلاة والدعوة إلى الخير لم تلزمهم الهجرة ولا تجب عليهم الهجرة، أما إن كانوا على خطر لا يستطيعون إظهار دينهم فإنها تجب عليهم إن استطاعوا، أما إذا لم يستطيعوا فالله يعفو عنهم سبحانه وتعالى" انتهي.
وللحديث بقية