بوتين في يالطا "التاريخية": إعادة رسم خريطة العالم؟
لا يأبه الكرملين لمواقف المجتمع الدولي في قضية شبه جزيرة القرم، ولا يترك مناسبة من دون التأكيد على "روسيّتها"، فقد التقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مع برلمانيي روسيا الاتحادية وأعضاء حكومتها، وممثلي الأقاليم الروسية، في يالطا، يوم الخميس الماضي، في منتجع "مريّا" الواقع على مسافة 27 كيلومتراً من مدينة يالطا.
لا يبدو أن بوتين اختار صدفة شبه جزيرة القرم، التي أغضب انضمامها إلى روسيا الغرب، لجمع طاقمه السياسي والعسكري ــ الأمني كله هناك، غير عابئ بمخاطر التواجد في مكان واحد، كما لا يبدو أن البعد الرمزي التاريخي لهذا المكان كان غائباً عن ذهن ثعلب الكرملين. فهنا بالذات، في فبراير/شباط 1945، التقى زعماء الترويكا، في بلدان التحالف المضاد لألمانيا النازية: الرئيس السوفياتي، جوزيف ستالين، والأميركي، فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل.
اتفق الزعماء في حينه، على تقاسم العالم بين بلدانهم المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. أُعيد رسم خريطة العالم آنذاك، فهل يريد بوتين، القول، إن إعادة رسم خارطة العالم للمرة الثانية تبدأ من هنا، في غياب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين؟
معروف أن القرم وسيفاستوبول، انضما إلى روسيا في مارس/آذار الماضي، وسبق القرار الفيدرالي بضمّ القرم إلى قوام روسيا الاتحادية، استفتاء شعبي عام، صوّت فيه 95 في المئة من سكان القرم المشاركين بـ"نعم" للانضمام.
وفي 21 مارس/آذار، وقّع بوتين مرسوماً بضمّ شبه الجزيرة إلى روسيا. وقد استقبل سكان القرم الخبر بفرحة عامرة، كما غطت سماء موسكو ألعاب نارية غير مسبوقة. فهل يكون اجتماع يالطا استمراراً للألعاب النارية أم رسالة أكثر صرامة للغرب، بأن يفكر بمرحلة ما بعد القرم فلا عودة إلى الوراء، وحقبة الاستفراد بالعالم التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي ولّت؟
يبدو أن موسكو ليست في وارد مراجعة، ولو شكلية، للخطوة الحاسمة التي أقدمت عليها في القرم وسيفاستوبول. فثمة عمل كبير يجري هذه الأيام، لدمج القرم اقتصادياً وسياسياً وتشريعياً بروسيا الاتحادية. فالروبل الروسيّ حلّ محل العملة الأوكرانية "غريفنا"، والأجور عُدّلت لتوازي نظيرتها في روسيا، وتمّت إعادة النظر في النظام الحقوقي والقضائي والإداري، وبدأت المصارف الروسية تعمل هناك، وكذلك خدمات شبكات الهاتف والإنترنت الروسية.
ووفقاً لموقع الحكومة الروسية الرسمي، يجري العمل على مشروع لبناء جسر، فوق مضيق كيرتش، يفيد العبّارات العاملة الآن بين القرم ومنطقة كراسنودارسكي كراي، الروسية. علماً بأن حكومة روسيا الاتحادية، صادقت على الخطة الفيدرالية الهادفة إلى تطوير شبه جزيرة القرم، اقتصادياً واجتماعياً حتى العام 2020، وتخصيص حوالى 19 مليار دولار لذلك.
شعبية تنتظر القوة
ويرى الخبراء أن ضمّ القرم بالذات، ساهم في ارتفاع حاد لشعبية بوتين، بنسبة الضعفين في غضون ستة أشهر، كما بيّنت استطلاعات الرأي العام، ولذلك فهو يبني على خطوة ضم القرم خطوات أخرى، موحياً للشعب الروسي بمزيد من القوة. فلو أن الانتخابات الرئاسية جرت الآن، لصوّت لبوتين القوي، حوالى 82 في المئة من الروس، وفق آخر استطلاع أجراه مركز "ليفادا" لدراسة الرأي العام.
ويُمكن لبوتين الاعتماد على هذه الشعبية، للقول إن القرم قلب روسيا، مثل موسكو، ونتخذ القرارات هنا، ولا حاجة بنا لاتخاذها إلى الولايات المتحدة وبريطانيا. وذهب بوتين بعيداً حين قال "فعلنا ما نستحق عليه الاجتماع في القرم". وأضاف "أرى أن القرم يمكن أن يكون اليوم مقياساً فريداً من نوعه، ويمكن أن يلعب دوراً فريداً توحيدياً لروسيا، ومعياراً لتصالح الحمر مع البيض".
ولا تخفى الرمزية التاريخية في هذا القول، فإذا كانت روسيا قد وصلت، منتصرة إلى يالطا 1945، على خلفية الاستبداد الستاليني الذي سحق البيض، فهي اليوم، في يالطا 2014، أقوى ومتّحدة. ولاحظ الرئيس الروسي أن شبه جزيرة القرم تدرك معنى النصر ومأساة الحرب الأهلية التي عصفت بروسيا في بداية القرن الماضي.
فوفقاً له، هنا بالذات قتل الروس بعضهم البعض، ولذلك فالقرم يمكن أن يساعد على شفاء الشعب الروسي مما ألمّ به نتيجة الانقسام المأساوي الذي عاناه في بدايات القرن العشرين. وعلى هذه الأرضية، دعا بوتين ممثلي الأحزاب السياسية ومنظمات الأقاليم في البرلمان إلى التفكير بوسائل إنجاز هذه المهمة. كما دعا إلى إقامة مساواة بين الشعوب واللغات الروسية والأوكرانية والتترية في القرم، فقال "يجب ضمان المساواة بين اللغات الثلاث".
وفي ضوء الخلفية التاريخية والدعوة إلى شدّ الصف الداخلي، أكد أن "إجراءات روسيا الجوابية (لمواجهة العقوبات) مشروعة، وأنها تأتي لدعم منتجي السلع المحليين، وكذلك لفتح أسواقنا أمام تلك البلدان وأولئك المنتجين الذين يريدون التعاون مع روسيا ومستعدون لذلك". وركز على أن روسيا لا تريد مواجهة مع العالم، فقال "علينا ترتيب بلدنا دون أن نقطع الاتصال مع العالم الخارجي، ولكن دون أن ننسى مصالحنا". وذكّر بأن العقوبات التي اتخذها الغرب ضد روسيا "لا ترتكز على أساس وغير شرعية على الإطلاق".
وفي شأن أوكرانيا، التي شكّل تدخل روسيا في أحداثها قاعدة للعقوبات الغربية، أشار الرئيس الروسي، الى أن "أوكرانيا غرقت في فوضى دامية". وعاد إلى تأكيد، ما سبق أن أعلنه غير مرة "لم تكن هناك أية عملية إلحاق. نعم استخدمنا قواتنا المسلحة ولكن من أجل إجراء الاستفتاء". وأضاف "نحن بحاجة إلى سلاح جيد"، مبدياً استعداده لتخصيص حوالى 557 مليار دولار لخدمة هذا الهدف.
وجزم "نحتاج إلى قوات مسلّحة حديثة وفعالة وتعبوية، ومن أجل ذلك تم وضع برنامج حتى العام 2020 ــ2021". ووفقاً له، فإن الحديث يدور عن تشكيل منظومات دفاعية وهجومية، لا مثيل لها عند البلدان الأخرى حتى الآن. ولفت الى أن "العالم لا يعرف بوجود مثل هذه المنظومات بعد". واعتبر أن ليس في ذلك "عسكرة للبلاد، إنما دافع جيد لتطوير القطاع الحربي". وعزّز الشعور بالقوة لدى مواطنيه "نستطيع ضمان أمننا بما نملك اليوم".
وأيّد زعماء روس عدة، مواقف بوتين، ومنهم رئيس الحزب الشيوعي الروسي، غينادي زيوغانوف، الذي شكر بوتين على موقفه الصارم من الغرب، معتبراً أنه "ينبغي علينا التفكير بنهج اقتصادي جديد. النموذج الليبرالي لا يناسب روسيا. إنه معيب". وبدوره اقترح رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي، فلاديمير جيرنيوفكسي، اختيار أفضل ما كان في العهد القيصري، وفي الحقبة السوفياتية، فقال "اقتصادنا لا يمكن أن يكون إلا حربياً، ولكنني لا أدعو إلى الحرب". ورأى أنه "يُمكن طرح مسألة استعادة الإمبراطورية"، ودعا بوتين إلى التواصل مع العالم الإسلامي، قائلا "العالم الإسلامي هم حلفاؤنا، والعسكرة والدعاية طريقنا".
ولا تقف حدود بوتين هنا، فبعد اجتماع يالطا الكبير، سيلتقي الرئيس الروسي مع رجال الثقافة، للحديث في دمج القرم بفضاء روسيا الثقافي. وهكذا، يبدو أن أحداً في موسكو لا يعنيه اعتراف العالم بالقرم جزءاً من روسيا الاتحادية. فعلاقات موسكو مع الغرب ستحكمها المصالح في نهاية المطاف. وموسكو تعلمت كيف تجني مصالحها غير عابئة بالآخرين. وبديل روسيا عن الغرب، متوافر في آسيا وأميركا الجنوبية. يالطا 2014، تذكرنا بيالطا 1945، حيث عرفت روسيا كيف تتقاسم العالم مع الكبار. -