د. حلمى القاعود يكتب عن منهج أبى الحسن الندوى فى السيرة الذاتية (3-3)
لا ريب أن الندوي يدرك ما وراء فن السيرة الذاتية وكتابتها من عرض النموذج القدوة الذي يجذب القراء ويؤثر فيهم ويحركهم نحو المثل الأعلى - ولله المثل الأعلى – فهناك دروس وتجارب ووقائع قد يكون لها نظير في المجتمع والبيئة، وقد يتوقع حدوثها؛ وهو ما يغني التجربة الإنسانية ويثريها ويهيئها للتفاعل الإيجابي وإفادة المجتمع الإسلامي ومن يعيشون فيه.
ولعل هذا ما جعل الشيخ علي الطنطاوي يرى في سيرة الندوي كتاب تاريخ، وكتاب أدب، وكتاب علم، وسجلاً اجتماعياً، فيه وصف عادات الناس وأوضاعهم في الهند، وكان مما قرأت عن المكان الذي نشأ فيه أنه بني على طراز الكعبة لطولها وعرضها، إلا لأنه نقص من ارتفاعها عدة أنامل تأدباً معها واحتراماً لها، وسقيت قواعده بماء زمزم (مسيرة حياة، ج1/ 9).
ثم إن القارئ يعلم عن الكاتب من سيرته ما قد يغيب عمن يترجم له من المؤلفين والباحثين، وخاصة ما يتعلق بالأمور الدقيقة والمفارقات التي تحدث في حياة الكاتب ولا تجد طريقها للنشر، ومنها على سبيل المثال قصة مهمة عن حبه للكتب ذات دلالة في طفولته، حيث كان في السادسة من عمره وتوافر معه قرشان فغدا إلى سوق «أمين أباد»، ودخل إحدى الصيدليات ودفع النقود للصيدلي وطلب كتاباً، وتفطن الرجل أن الطفل ساذج بريء من أسرة كريمة، فأعطاه فهرس الأدوية بالأردية وردّ معه النقود، فعاد فرحاً مسروراً، وزين مكتبته الصغيرة بهذا الكتاب مع كتب ورسائل كان والده يستغني عنها ويتركها (مسيرة حياة، ج1/ 57)، ومنها أيضاً أنه كان يحب الورود أيضاً مثلما يحب الكتب، ومنها كذلك ما يتعلق بحركة الخلافة وتأثيرها على الهند ومثقفيها، وكانت لكنهؤ تستقبل الزعماء: الشيخ عبدالباري الفرنجي محلي، وغاندي، ومحمد على وشوكت علي، وأناشيد الخلافة يُغنّي بها في كل مناسبة، وأن الإنجليز قد انتهى حكمهم بعد إعلان المقاطعة لبضائع الإنجليز، ويلي ذلك حديث مستفيض عن إلغاء الخلافة على يد اللورد «كرزن»، وإعلان استقلال تركيا العلمانية (السابق، ج 1/ 64 وما بعدها).
موضوعية
رابعاً: موضوعية التناول خطوة أساسية في منهج الندوي، والموضوعية تعني الصدق والالتزام بالحقائق، وذكر ما يعرفه دون زيادة أو نقصان، فالرجل ينتسب إلى أسرة عريقة ذات أرومة عربية، ويضع الشيخ علي الطنطاوي أسرة أبي الحسن ضمن العرب الأقحاح الذين عرفوا بألقاب فارسية وأعجمية مثل: التبريزي، الشيرازي، القزويني، الجرجاني، الهمداني، الرازي، الطبري، الشهرستاني، النيسابوري، الإسفراييني، الأصفهاني.. (السابق، ج1/ 10)، ومع ذلك فإن الندوي يشير إلى أنه نبغ في الأسرة أعلام في مختلف العلوم والآداب، ولكنه لا يجعل ذلك سبيلاً إلى إضفاء نوع من الحصانة على أسرته، فيذكر أنه لا تُستثنى أسرة من الأسر البشرية من قانون الازدهار والسقوط، ويستشهد على ذلك بآيات القرآن الكريم: ﭽﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﭼ (النجم)، ﭽﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭼ (النساء:123)، ﭽﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﭼ (الإسراء)، وفي السياق الموضوعي يؤكد أنه تبقى دائماً خصائص وميزات متوارثة للأسرة الحسنية، في مقدمتها التمسك بعقيدة التوحيد الخالص، والبعد عن الشركيات، والبدع والمحدثات؛ مصونة من تأثير العقائد الشيعية، فقد تشيع عدد كبير من الأسر الأرستقراطية - كما يذكر الندوي - لرغبتها في الإقطاعات التي تقطعها الأسرة الشيعية الحاكمة في الولاية الشمالية، أو بتأثير المصاهرة، وقد حفظ الله الأسرة الحسنية الطيبة من هذه المساومة.
ويستشهد في موضوعية بقول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
(راجع: مسيرة حياة، ج1/34 وهامشها).
ثم إنه يفسر بعض المواقف التي لا تتعارض مع الوطنية مثل موقفه عام 1929م حين تسلم شهادة التخرج من حاكم إنجليزي للولاية السير «مالكولم هيلي» وكانت صدمة له، ولكن - كما يقول الندوي - ينبغي أن يحكم على كل شيء باعتبار المكان والزمان، ويوزن بميزان عصره وبيئته، فلم يكن ذلك معيباً في تلك البيئة وذلك العصر (السابق، ج1/ 88).
ومن معالم موضوعيته أنه يتحدث عن والده وزواجه الثاني من والدته السيدة خير النساء بنت السيد ضياء النبي معلم الوالد وأستاذه، وذلك بعد وفاة زوجه الأولى عام 1901م، ويذكر أن السيد ضياء النبي قد تهلل عندما عرف برغبته في خطبتها مع أنه من بيت فقير، وفضله على أحد أقاربه الأغنياء الذي كان تقدم لخطبتها (ص 42)، وكانت هناك رؤى وبشارات حتى تم الزواج عام 1904م، وولدت أخته الكبرى السيدة أمة العزيز عام 1906م وإخوته الأعزة الفضلاء، كما يشير إلى سيرة جده السيد فخر الدين بن عبدالعلي الحسني، ثم كانت ولادته عام 1914م بعد ولادة أخته الثانية أمة الله عائشة عام 1907م، كما يرصد عهد الطفولة في «تكية»، وبعض الأحداث والشخصيات، ومنها الفيضان الهائل عام 1915م، ويعتز بشخصية خاله الشفوق السيد عبدالله، واتساقاً مع منهجه في الموضوعية والتزام الصدق من الإشارة إلى بعض الخصومات في الأسرة وهو في مرحلة الصبا والقضاء عليها بجهود والده (السابق، ج1/ 33- 42).
إيجاز
خامساً: مراعاة الإيجاز والإطناب، كل في موضعه، وهذا ما طبقه الندوي في كتابة السيرة من خلال صياغة ناعمة دقيقة تتحرى المعاني المقصودة دون غموض أو إبهام ودون ثرثرة غير مفيدة أو إيجاز يخل بالمعنى، ويفسر الندوي ما يراه القراء من إطالة وإطناب أحياناً بالفرق الطبيعي بين كتب التاريخ والتراجم، وكتب الحياة الشخصية، فالمؤلف في كتب التاريخ والتراجم يكون ممثلاً عن تلك الشخصيات التي يكتب عنها ومحامياً لها ومدافعاً عنها ومتقيداً بكثير من الالتزامات فيها، ويكون هو حراً طليقاً في الكتابة عن نفسه، وممثلاً لذاته، ومتحدثاً عنها، فلا يصح – إذن – أن تقاس محتويات كتب الحياة الشخصية بمقياس الاتزان والتناسب الدقيق الذي تقاس به محتويات كتب التاريخ والتراجم، فالواجب أن يسمح للمؤلف عن نفسه أن يستخدم الإيجاز أو الإطناب والإجمال أو التفصيل، حسب وجهة نظره، وحسب انطباعاته في حياته واعتباره للأهمية والخطورة لشيء دون آخر، وإلا فسوف ينعدم الفارق المطلوب بين الكتاب عن النفس والكتاب عن الغير (مسيرة حياة، ج1/ 25).
ويضرب مثلاً حول الإيجاز والإطناب بوفرة المادة التاريخية عن الأسرة الحسنية القطبية الكريمة التي ينتسب إليها وتعرف بشرف أصلها وتنجب نوابغ في العلم والفضل والشخصيات المرموقة، ويرى أن ذلك يكفيه مئونة الإطالة والإفاضة، ويكتفي بنبذة ويحيل على الكتب الموسعة التي تتناول تراجم أعيانها من الكبار والعظام (السابق، ج1/ 27).
وقد ضمن الندوي سيرته الذاتية عدداً من الرسائل والوثائق التي تبادلها مع الرؤساء والملوك وغيرهم وردود بعضهم عليها، وهي تحوي تناولاً لقضايا مهمة على مستوى الهند والعالم العربي والمسلمين بصفة عامة (انظر على سبيل المثال: رسالته إلى الملك فهد بن عبد العزيز ورد الأخير عليها - مسيرة حياة، ج3/ 98).
الصورة العقلية
سادساً: يتكئ منهج الندوي على أن كتابة السيرة الذاتية مسألة مهمة للغاية؛ إذ تبين للقارئ ملامح الصورة العقلية للكاتب وطريقة تفكيره ومراحل التطور التي مرت بها هذه الطريقة وتلك العقلية، فضلاً عن معرفة تاريخ الإنشاء والكتابة والتأليف في حياة الكاتب، وأهم الأحداث والوقائع والحركات والدعوات في عهده، وتتبع آرائه وأفكاره ومشاهداته وانطباعاته، ودعوته ومنهجه بصورة مختصرة، وعرض النقاط الأساسية الرئيسة من كتاباته ومؤلفاته وتقديم مقتطفات مهمة منها، وهي منشورة مبعثرة في كثير من مقالاته ومحاضراته ومؤلفاته، التي بلغت أكثر من مائة مؤلف، ليس من اليسير أن يقف عليها من يريد الاطلاع على آرائه فيها في وقت واحد (راجع مسيرة حياة، ج 1 /25).
وقد سجل الندوي في الجزء الثالث رسالة من أحد محبيه وهو الأستاذ سهيل أحمد – نزيل أمريكا - يعرض فيها خلاصة جيدة لتجربة حياة الندوي وعصارة فكره ودراساته، وذكر فيها ما جرى في أحد مجالس شيكاغو التي تحدث فيها الندوي وأعرب فيها عن آرائه وأفكاره، وتشتمل على عرض سليم لأفكاره وتصوراته ودراساته، وقد ختم الندوي بهذه الرسالة رحلاته الطويلة في القارات الثلاث، الرسالة مهمة وتتضمن وعياً بالواقع الخطير الذي يعيشه المسلمون في أتون المؤامرات الخارجية التي لا تتوقف، وهي رسالة مسهبة وفيها كثير من أفكار الندوي المهمة (مسيرة حياة، ج3/277 وما بعدها).
ما سبق يوضح منهج الندوي في كتابة السيرة الذاتية في خطوطه العريضة، ويجعل منها وثيقة حية وقوية تسجل حياة رجل نشأ في أسرة عريقة تتصل في نسبها إلى الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه، وجاء أول أجدادها إلى الهند في القرن السابع الهجري.
وكانت كتابة هذه السيرة نموذجاً تحتذيه الأجيال الجديدة من الباحثين والمحبين لأمتهم الإسلامية والمدافعين عن عقيدة الإسلام، لقد كتبها الندوي وهو في ظروف طبية فرضت عليه كتابتها لتكون تذكيراً لنفسه أولاً بنعم الله التي تستوجب الحمد والشكر، والاعتبار بالحوادث والانتفاع بالدروس وتجارب الحياة، وإشراك القراء في استخراج النتائج الصحيحة من الحوادث الماضية والانتفاع بها، والاعتبار من الأخطاء والعثرات فيبتعدون عنها، ومشاهدة آيات الله في الأنفس والآفاق ونعمه على عباده وخلقه فيتعرضون لها ويجربونها ويستجلبونها بالرجاء والدعاء، والسعيد من وعظ بغيره (مسيرة حياة، ج1/ 25 – 26).
يقول الشيخ علي الطنطاوي: إننا – يقصد المسلمين - حكمنا الهند ألف عام، وتاريخ الإسلام في الهند يعدل ربع التاريخ العام، وخلفنا في الهند أضعاف ما خلفناه في الأندلس، وفي كل شبر من الهند دم زكي أرقناه وحضارة خيرة وشيت بالعلم والعدل والمكرمات والبطولات والمعاهد والمدارس، وهناك آثار تفوق بجمالها الحمراء، وحسبكم «تاج محل» (انظر: السابق، ج1/ 8 وما بعدها).
وما قاله الطنطاوي كان ينبغي أن يضيف إليه أن الندوي وندوة العلماء في لكنهؤ بالهند جزء من هذه الحضارة الخيرة، وأثر من آثارها، رحم الله الندوي وألحقنا به مع الصالحين.