أنت غير مسجل في مسلم أون لاين . للتسجيل الرجاء أضغط هنـا
 

الإعلانات النصية


الإهداءات

العودة   منتديات مسلم أون لاين العودة مسلم أون لاين للغـــات العودة قسم اللغة العــربــية

إضافة رد
   
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  مشاركة رقم : 1  
قديم 10-19-2015
محمد فرج الأصفر
الصورة الرمزية محمد فرج الأصفر


رقم العضوية : 4
تاريخ التسجيل : Jul 2014
المشاركات : 2,043
بمعدل : 0.57 يوميا
معدل تقييم المستوى : 12
المستوى : محمد فرج الأصفر نشيط

محمد فرج الأصفر غير متواجد حالياً عرض البوم صور محمد فرج الأصفر



المنتدى : قسم اللغة العــربــية
Importance أثر الدرس اللغوي في فهم النص الشرعي

بسم الله الرحمن الرحيم نستروح عبق الإيمان، وبحمده وتسبيحه نستمطر العون والتوفيق والرضوان، وبالصلاة والسلام على من أوتى جوامع الكلم، ونوابغ الحكم، وسوابغ النعم، نعطر جو الزمان والمكان.
أما بعد …
فإن هذا الموضوع الذى يعبر عنه عنوان هذا البحث مما ينبغى أن تكثف حوله الجهود قبل أن يستغلق فهم النص، أو يجمد الذهن على معنى ضيق أراد الله أن يكون واسعًا، أو يحاول العقل توسيع ما أراده الله محدّدًا.
- ذلك أننى ممن يرى أن الفصل التعسفى الذى حدث بين علوم العربية دون ربط معنوى يقف بالدارس على الفروق الدلالية بين أسلوب وآخر، وعلى السر فى هذا الاختلاف.. من أهم أسباب انصراف هذا الجيل عن تعلم العربية وتذوقها والتعمق فى أسرارها وخصائصها.
- كما أن من هذه الأسباب الاهتمام بعلم النحو على أنه قواعد جافة، يُمثّل لها بأمثلة صارت أضحوكة فى بعض وسائل الإعلام من كثرة تردادها على ألسنة الحافظين لها دون ظهور أثر تطبيقى لها على الأساليب الفصحى التى تحرك المشاعر وتبين الحِكَم، وتأخذ بلب القارئ والسامع دون أن يدرك السر فى تراكيبها حتى يستطيع أن ينسج الدارس على منوالها.
- وليس بخاف على أحد أن أفصح هذه الأساليب وأروعها وأقربها إلى قلوب المؤمنين أساليب القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة؛ تلك الأساليب التى استنبط منها الفقهاء أحكام الشريعة، واختلفت وجهات نظرهم أحيانًا فى فهم النص، ورتب كل منهم حكمه على هذا الفهم مستدلاً على فهمه باستعمال العرب للفظة ما فى معنيين اختار منهما ما رآه متسقًا مع السياق، أو مع نص آخر أو معتمدًا على إمكانية فهم الجملة القرآنية أو النبوية مرتبطة بما قبلها، أو مستأنفة معنى جديدًا تسمح به قواعد الفصحى، أو مفسرًا لمعنى الجملة على الحقيقة أو على المجاز.
- وكثيرًا ما ثار لدى المثقفين ثقافة مدنية سؤال عن سبب اختلاف الأئمة فى بعض الأحكام الشرعية، بل وكثيرًا ما تعصب بعض المسلمين لرأى فى مذهب ما منددًا بالآراء الأخرى والمذاهب المخالفة لرأيه، بل ومجندًا كل طاقات دعوته فى توهين المذهب الآخر.. وفى ذلك تبديد لجهود الدعوة التى ينبغى أن تركز حول الأصول العامة التى لا خلاف حولها، والثوابت الراسخة فى ديننا؛ حيث إن الإسلام يسع جميع تلك الآراء ما دامت اللغة التى نزل بها كتابه تسيغ هذا الفهم، ويحتمله التركيب.
- ورسولنا صلى الله عليه وسلم قد أرانا النموذج الأمثل فى فهم النص على حقيقته أو على مجازه فى حديثه المشهور حين قال للجنود بعد أن كفى الله المؤمنين القتال فى غزوة الأحزاب وأمر بالتوجه إلى بنى قريظة الخونة حيث قال: « لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » ففهم بعض الصحابة هذا الحديث على معناه الحقيقى بحيث إذا جاء وقت العصر قبل أن يصلوا إلى بنى قريظة امتنعوا عن الصلاة تنفيذًا لأمر رسول الله.. وفهم البعض الآخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقصد بنهيه هذا الإسراع فى الوصول إلى بنى قريظة لمباغتتهم وحين جاء موعد صلاة العصر صلوها فى الطريق.
ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعله الفريقان أقر كلا على ما فهم وما فعل.
لهذا وذاك أقدم هذه المحاولة: أشير فقط إلى ما فى دراسة العلوم العربية من أثر فعال فى الفهم الصحيح والمعتدل لوحى الله الخالد.
وليكن هذا البحث إشارة فقط وتمهيدًا لدراسة التراث العربى فى مظانه ومراجعه وإضاءة لمسالك البحث وفهم النص.
ومن الله وحده نستمد العون ونرجو النفع؛ وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تمهيد
قبل أن ندخل فى تفاصيل هذا البحث نستصحب بعض الحقائق التى تفيدنا فى فهم الأسس التى ينبنى عليها ما يمكن استنباطه من نتائج توضح أهمية التعمق فى درس الفصحى وسيلة وحيدة للوصول إلى مراد الله من وحيه المبارك بقدر الطاقة البشرية:
1 - الدرس اللغوى المقصود ليس خاصًا بفقه اللغة ومعاجمها - كما قد يتبادر إلى الذهن - إنما المقصود به دراسة النص من جوانبه اللغوية المتعددة: دلالة لغوية معجمية، أو صرفية، أو نحوية، أو بلاغية؛ فكل ذلك له تأثيره الواضح فى الفهم والاستنباط؛ وهذه العلوم متكاملة لا يغنى أحدها عن غيره.
2 - النص الشرعى المقصود فى هذا البحث منحصر فى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكلاهما - كما هو من البدهيات - بلسان عربى مبين.
3 - هذا اللسان ما اختاره الله أداة لوحيه ووعاء له، إلا لتميزه عن غيره من اللغات من حيث وفرة المواد اللغوية وتعدد معانيها واستخداماتها وتراكيبها وصيغها، مما يحقق البلاغ المبين إلى كل العالمين.
4 - فى أثناء نزول الوحى كانت السليقة العربية والنبوغ فى فنون الكلام الفصيح شعرًا ونثرًا سمة غالبة فى البيئة العربية وبهذه السليقة أدرك العرب مرامى ومدلولات الوحى مما جعلهم يسجدون لبلاغته ويعجزون عن مجاراته حتى من قبل أن يؤمنوا به.
5 - عالمية الإسلام أتاحت لجميع الأجناس البشرية على اختلاف ألسنتها وألوانها وأوطانها أن يدخلوا فى دين الله أفواجًا، وصار من حقهم أن يفهموا نصوصه وتعاليمه، ومن حيث إن لغاتهم تختلف عن العربية كان لابد لهم من تعلم لغة الوحى ليصلوا إلى ما يريدون.
6 - من أجل ذلك هرع علماء الإسلام منذ عصر الصحابة إلى تقعيد هذه اللغة وضبط مفرداتها المستعملة زمن الوحى، وسمات الأساليب والتراكيب العربية.. وبهذا نشأت كل العلوم العربية لخدمة هدف محدد هو الحفاظ على القرآن والسنة من التحريف أو الفهم السقيم أو التأثر باللغات الوافدة.
7 - فى عهد أمير المؤمنين " عمر بن الخطاب " وبعد الفتوحات الإسلامية ظهر اللحن فى ألسنة بعض المسلمين الذين دخلوا فى دين الله ولغاتهم تختلف عن العربية، ومن ذلك ما روى عن أعرابى دخل المدينة وطلب من أحد القراء الأعاجم أن يعلمه القرآن فبدأ معه بسورة التوبة حتى وصل إلى قوله تعالى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) فنطقـها القـارئ بكسـر اللام مـن " رسوله " فقال الأعرابى ذو السليقة السليمة: وأنا برئ من رسوله كما برئ الله منه ومن المشركين؛ فأمسك القارئ - الجاهل بلغة الوحى - بتلابيب الأعرابى وذهب إلى سيدنا " عمر " مخبرًا إياه بأن هذا الأعرابى قد برئ من رسول الله، فسأل " عمر " هذا الأعرابى فحكى له ما حدث؛ فقال له: " ما هكذا نزلت الآية يا أعرابى، إنها بضم اللام من " رسوله "؛ فقال الأعرابى وأنا برئ ممن برئ الله ورسوله منهم؛ وأساس هذا الفهم لدى الأعرابى أننا إذا نطقنا كلمة " رسوله " بكسر اللام كانت معطوفة على المشركين الذين وقعت عليهم البراءة كما تقول: عجبت من محمد وعلىّ، فالعجب منصب عليهما معًا؛ أما إذا قرنت الآية بالرفع فإن كلمة " رسوله " تكون بدءً ا لجملة جديدة تقديرها: ورسوله برئ منهم كذلك.
وخرج سيدنا " عمر " مرة فلقى شبابًا يتبارون فى الرمى فعاب عليهم طريقة رميهم، فقال شاب منهم: يا أمير المؤمنين نحن قوم متعلمين؛ فغضب " عمر " وقال: " لخطؤك فى كلامك أشد علينا من خطئك فى رميك ".
ولهذا بدأ علماء الصحابة كأبى الأسود الدؤلى وسيدنا " علىّ بن أبى طالب " فى وضع قواعد النحو للمحافظة على الإعراب.
8 - وحين قرأ بعض المتعلمين قوله تعالى: ( وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) بفتح التاء من " تنكحوا " رد عليه من يعرف مسار اللغة، والفروق الهامة بين الصيغ: ولو آمنوا يا بنىّ لن نتزوجهم، فلا زواج بين الرجال والرجال؛ وعليك أن تضم التاء لتفيد معنى التزويج لا التزوج؛ ذلك أن فتح التاء يقتضى أن الفعل مضارع للثلاثى: نكح، أما الضم فيجعله مضارعًا للفعل الرباعى: أنكح، والفرق بين اللفظين واضح.
ومن هنا كانت الحاجة إلى علم الصرف.
9 - ثم تبع ذلك أن بدأت الشبهات تسرى بين بعض المسلمين تشكك فى سلامة الأسلوب القرآنى وألفاظه، ومن ذلك أن نافع بن الأزرق الخارجى حين رأى حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس يجلس فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم يفسر القرآن دخله الشك فى قدرة هذا الغلام على تفسير كتاب الله، فجمع بعض الأسئلة الى رآها صعبة فى مجال الكلمات الغريبة فى القرآن، وبدأ يسأله عن معانى هذه الكلمات وحين يجيبه سيدنا عبد الله بالمعنى يسأله: وهل تعرف العرب ذلك فى كلامهم ؟ فيرد عليه ابن عباس ببيت من الشعر العربى يؤيد ما قاله فى تفسيره الكلمة، وذلك كله من منطلق أن القرآن نزل بلسان عربى مبين.. وسميت هذه الأسئلة واشتهرت بـ " مسائل نافع بن الأزرق " وقد تجاوزت مائتى مسألة.. وكان هذا سببًا فى ظهور كتب غريب القرآن التى بدأت بها كتب المعاجم.
10 - ولما جلس أبو عبيدة معمر بن المثنى لدروس العلم فى المسجد جاءه رجل يقول له: إن العرب حين تستعمل أسلوب التشبيه فإنها تشبه مجهولاً بمعلوم حتى يتضح المجهول فما بال القرآن يشبه مجهولاً بمجهول فى قوله تعالى عن شجرة الزقوم: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) ؛ فنحن لم نر طلع الشجرة فهى مجهولة لدينا، ورؤوس الشياطين أيضًا مجهولة لنا حيث لم نر شيطانًا، فكيف وقع هذا فى القرآن ؟ فرد عليه معمر بأن العرب تكتفى بالصورة الذهنية عن الصورة المشاهدة، ورأس الشيطان صورته فى الذهن العربى صورة كريهة مخيفة مرعبة، فشبه به شجرة الزقوم، كما فعل العرب حين شبهوا الرماح بأنياب الغول وهم لم يروا الغول فى مثل قول الشاعر:
أيقتلنى والمشرفىّ مضاجِعى
* ومسنونةُُ زرق كأنياب أغوال
ومن هنا نشأ علم البلاغة لخدمة أساليب القرآن أيضًا.
11 - ولما كان الهدف واحدًا لهذه العلوم تعاونت وتكاملت فى فهم النص الشرعى، وأجمع علماء الشريعة وفقهاؤها أن تعلم العربية والتعمق فيها شرط أساسى لكل باحث فى أى علم شرعى، ولجأ أئمة الاستنباط إلى تلك القواعد يستعينون بها على بيان أحكام الله، بل جعلوها أحيانًا حكمًا بين الآراء، ومرجحًا لبعض الأحكام، فكانت مباحث الألفاظ العربية – مثلاً - بابًا رئيسًا فى علم أصول الفقه، وكان اشتراط أهل العلم فى أى مجتهد أن يكون إلمامه عميقًا بأسرار العربية، وكانت مقولات المفسرين فى بداية كتبهم تنبيهًا مسهبًا إلى أهمية التعمق فى العربية بعلومها المختلفة وسيلة لفهم كتاب الله؛ ومن أهم هذه العلوم: علم الغريب والمعاجم، وعلم الصرف، وعلم النحو، وعلم البلاغة والأدب.

ضرورة الدلالات الأربع
يرجع الأساس الذى بنينا عليه أهمية الرجوع إلى هذه العلوم إلى أن القارئ لأى نص عربى قد يصادفه لفظ لا يدرى استعمال العرب له، فيلجأ فورًا إلى المعجم العربى ليعرف دلالته اللغوية.. غير أن المعاجم العامة وبخاصة الكبيرة منها مثل " لسان العرب " تستوعب المعانى الواردة فى اللغة بمختلف لهجاتها، وما ورد من شعرها ونثرها.. وقد يصعب على الدارس للنص القرآنى تحديد المعنى المراد من خلال هذه المعاجم، فالأفضل له أن يلجأ إلى كتب الغريب بحيث إذا كان البحث عن معنى لفظ قرآنى رجع إلى كتب: غريب القرآن؛ وإن كان فى حديث نبوى لجأ إلى كتب: غريب الحديث؛ ومن أفضل هذه الكتب فى غريب القرآن: " المفردات " للراغب الأصفهانى؛ و" معجم ألفاظ القرآن الكريم " لمجمع اللغة العربية؛ أما كتب غريب الحديث فمن أيسـرها كتاب " النهايـة فى غريب الحـديث والأثر " لابن الأثير، و" الفائق فى غريب الحديث " للزمخشرى؛ ومن العلماء من جمع بين غريب القرآن والحديث مثل الهروى فى كتابه: " الغريبين ".
ومع كل ذلك لابد من إدراك السياق للنص عند تحديد المعنى المراد.
- وبعد أن يعرف المعنى اللغوى للمادة لابد له أن يبحث عن الصيغة التى أتت عليها المادة، إذ لكل صيغة معنى يخصها، وعند معرفة الصيغة ومعانيها الواردة فى اللغة ينضاف المعنى الصيغى إلى المعنى اللغوى للمادة؛ وستأتى أمثلة كثيرة توضح أن كل حرف يزاد على أصول الكلمة العربية لابد أن يكون له معنى زائد يقصده البليغ، ويتكفل ببيان هذه الصيغ علم الصرف.
كما أن دراسته مهمة للغاية فى كيفية تجريد الكلمة من زوائدها ليتمكن الدارس من الكشف على معناها فى المعاجم لأن معظم هذه المعاجم تضع تصرفات اللفظ تحت المادة اللغوية المجردة.
فإذا شاء الباحث معرفة معنى الاستقامة مثلا كان عليه أن يرجع إلى مادة: " القاف والواو والميم ".
وإذا أراد أن يبحث عن معنى التقوى كان عليه أن يبحث فى مادة: " الواو والقاف والياء " وهكذا..
ومن مباحثه أيضًا ما يعرف به كيفية التأنيث والتذكير والتثنية والجمع والإمالة والوقف والإدغام وغير ذلك.
- وبعد أن يحدد المعنى اللغوى من كتب الغريب، والمعنى الصيغى من علم الصرف يأتى دور علم النحو فى تحديد الموقع الإعرابى لهذه الكلمة ووضعها فى الجملة التركيبية حتى لا ينسب حدث إلى من لم يقم به.. ولا يخفى ما للعلامة الإعرابية فى آخر اللفظ من أهمية بالغة فى تحديد المعنى المراد، وستأتى أمثلة كثيرة لاختلاف المعنى باختلاف الإعراب.
وقد تنوعت كتب النحو من عهد " سيبويه " إلى الآن فمنها ما اختص بشرح القواعد بأمثلة من واقع المستعمل لدى الدارسين، وهى المشهورة الآن فى الدراسـة التجريدية من أمثال شروح ألفية ابن مالك، وهذا النوع من الكتب لا يصلح إلا للمتخصصين الحافظين لكتاب الله، كما كان الوضع فى مناهج التعليم القديمة.
ومنها ما اختص بإعراب القرآن والسنة، وهو منهج تطبيقى للقواعد على النص الشرعى، وقد بلغت كتب الإعراب من الكثرة فى مختلف العصور ما يعكس الاهتمام بكتاب الله مثل: " إعراب القرآن " للنحاس، و" مشكل إعراب القرآن " لمكى بن أبى طالب، و" البيان فى إعراب القرآن " لابن الأنبارى، و" معانى القرآن وإعـرابه " للزجـاج، و" معانى القـرآن " للفراء، وللأخفش، و" إملاء ما من به الرحمن " للعكبرى وكل ذلك مطبوع ومنشور.
وهناك لون آخر من الدراسة النحوية التطبيقية يتمثل فى توجيه القراءات القرآنية نحويًا، سواء كانت قراءات متواترة - وهى القراءات العشر - أم كانت قراءات شاذة، فمن ذلك: " الحجة فى القراءات السبع " لأبى علىّ الفارسى ولابن أبى زرعة، ولابن خالويه؛ و" الكشف عن وجوه القراءات السبع " لمكى؛ و" إعراب القراءات الشاذة " للعكبرى، و" المحتسب " لابن جنى.
ومن الدراسات النحوية الطريفة ما يتعرض لرد الشبهات التى أثارها الملحدون فى أسلوب القرآن الكريم والسنة النبوية ومن ذلك: " تأويل مشكل القرآن " لابن قتيبة، و" مشكلات الجامع الصحيح " لابن مـالك، و" مغـنى اللبيب عن كتب الأعاريب " لابن هشام، و" البرهان فى علوم القـرآن " للزركشى، و" نتائج الفكر " للسهيلى، و" بدائع الفوائد " لابن قيم الجوزية.
- وحتى يتم الوضوح والبيان للأسلوب العربى لابد من معرفة سياق النص وما لحقه، وتتعرض لهذا كتب: " أسباب النزول " للسيوطى وغيره، وكتب البلاغة التى تعنى بمقتضيات الأحوال وأسرار التراكيب فى التقديم والتأخير، والإيجاز والإطناب والمساواة، والحقيقة والمجاز، والقرائن، والمحسنات البديعية؛ ومن أفضل كتبها: " أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز " للإمام عبد القاهر الجرجانى وكتاب " التلخيص وشروحه " للخطيب القزوينى.
- وفى كتب التفسير عناية بهذه المباحث وإن كان بعضها يركز على المباحث النحوية بحسب تخصص المفسر كما فى " البحر المحيط " لأبى حيان، و" الدر المصون " للسمين الحلبى، ومنها ما يعنى بالمعانى البلاغية كـ " تفسير الكشاف " للزمخشرى، و" تفسير أبو السعود " و" المحرر الوجيز " لابن عطية، ومنها ما يعنى بالأحكام واستنباطاتها من النص مثل " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبى وهكذا.


أهمية الكشف عن المعنى اللغوى

من المهم جدًا التنبيه إلى أن القرآن والحديث قد يرد فيهما اللفظ الواحد مستعملاً فى أكثر من معنى، ضرورة مراعاتهما للهجات المختلفة، حيث نزل القرآن الكريم على سبعة أحرف، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يكلم كل وفد من وفود العرب بلهجته؛ وقد سبق أن أشرنا إلى أن الأفضل للدارس - الباحث عن معنى لغوى للفظ شرعى - أن يرجع إلى كتب الغريب وليس معنى ذلك أن المعاجم اللغوية لا تفيد الباحث عن المعنى المستعمل فى النص الشرعى، ولكن بصعوبة تتدرج من المعاجم الصغيرة إلى المعاجم الكبيرة.
ومن أيسر هذه المعاجم " المصباح المنير " للفيومى إذ يعنى بالألفاظ الشرعية وهو يسير على طريقة الهجاء الألف بائى، بمعنى أنه يقدم ما أوله همزة على ما أوله باء، ثم على ما أوله تاء، بحسب الترتيب المشهور للحروف العربية، كما يقدم فيما أوله همزة ما ثانيه همزة على ما ثانيه باء، على ما ثانيه تاء، وهكذا إلى حرف الياء؛ وكذلك " المعجم الوسيط " لمجمع اللغة العربية.
ومن المعاجم ما يسير على طريقة القافية مثل: " القاموس المحيط " و" لسان العرب "، و" الصحاح " للجوهرى، بمعنى أنه يرتب الكلمات بحسب الحرف الأخير منها فيقدم ما آخره همزة على ما آخره باء، فمثلاً كلمة "صمد" نجدها فى " المصباح المنير "، و" المعجم الوجيز "، و" المعجم الوسيط "، و" مختار الصحاح " فى باب الصاد فصل الميم؛ ونجدها فى " القاموس "، و" اللسان "، و" الصحاح " فى باب الدال فصل الصاد.
وحتى لا يكون الكلام نظريًا يتوه فى عالم العموميات نتعرض لبعض الأمثلة من النصوص القرآنية ليتبين صدق ما نقول من أهمية الكشف على المعنى اللغوى ومعرفته بدقة قبل فهم الآية:

1 - توقف ترجمان القرآن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما - مع ما عرف عنه من قوة الحافظة وإلمامه الواسع بالشعر العربى - عن الإدلاء برأيه فى معنى قوله تعالى: ( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) فهو يقول: لم أفهم معناها إلا بعد أن سمعت ابنة ذى يزن وهى تقول لخصمها: تعال أفاتحك، فعلمت أن الفتح مستعمل عندهم بمعنى الحكم والقضاء، وعلى هذا فالمعنى:ربنا احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين.. وعلى هذا أيضًا نفهم قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ؛ ذلك أنه يوم الحكم والقضاء بين الناس، لا بمعنى فتح الأبواب ولا فتح الأمصار.

2 - توقف أيضًا سيدنا عبد الله بن عباس فى معنى قوله تعالى:(فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) حتى سمع رجلاً يخاصم آخر على بئر فيقول له: أنا فطرتها، بمعنى أنه هو الذى بدأ حفرها دون سابق له
3 - توقف سيدنا " عمر بن الخطاب " رضي الله عنه - بالرغم من درايته الكبرى بالشعر العربى - فى معنى التخوف فى قوله تعالى: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) فى سورة النحل حتى قام بعض الصحابة فقال: هذه لغتنا يا أمير المؤمنين: التخوف عندنا التنقص، أى أن الله يعدد احتمالات العقاب فى الدنيا للماكرين، إما بخسف الأرض بهم، وإما بإتيان العذاب الماحق من حيث لا يحتسبون، وإما بأخذهم وهم يتقلبون فى منامهم أو فى معايشهم، وإما بأخذهم بالتدريج: ينقص منهم النعم شيئًا فشيئًا حتى يهلكوا.
4 - ورد اليأس فى القرآن الكريم بمعنى الإحباط والقنوط وعدم الرجاء مثل قوله تعالى: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) وقوله: ( أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) وقوله: ( وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ) ؛ لكن هناك آيـة ورد اليأس فيها بمعنى العلم على لهجة من لهجات العرب وذلك فى قوله تعالى:(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) ومعناها: أفلم يعلم.
5 - قوله تعالى: ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) اختلف الفقهاء فى حكم التوجه إلى الكعبة المشرفة هل الواجب تحرى عين الكعبة ؟ أو يكفى التوجه ناحيتها ؟ وهل على من يقيم خارج مكة أن يتحرى أيضًا عين الكعبة ؟ أو تكون قبلته مكة نفسها ؟ أو المسجد الحرام كله ؟..
وبعد اتفاقهم على أن من يكون فى المسجد الحرام - ويمكنه رؤية الكعبة - يجب عليه أن يتجه إلى الكعبة نفسها، بحيث لو انحرف عنها بطلت صلاته.. جاء خلافهم فيمن هو خارج المسجد الحرام، وانبنى الخلاف على الدلالة اللغوية لكل من كلمة " شطر " وكلمة " المسجد الحرام "، إذ ورد الشطـر فى اللغة بمعنى النصف، وبهذا أخذ الفريق القائل بوجوب تحرى عين الكعبة ومنتصفها.. كما ورد الشطر بمعنى الجهة، وبه أخذ الفريق الآخر الذى يرى الاكتفاء بالتوجه ناحيتها.
كما أن كلمة المسجد الحرام أطلقت فى القرآن على المسجد نفسه، وعلى مكة كلها، وعلى الحرم كله، ومن هنا قال بعض
الفقهاء من الصحابة والمجتهدين: إن الكعبة قبلة من فى المسجد، وإن المسجد قبلة من فى مكة، وإن مكة قبلة من بخارجها من الحرم، وإن الحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب؛ وواضح أن قوله تعالى:( ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) قد ورد فيه لفظ المسجد مرادًا به ما حول المسجد حتى المواقيت.
6 - فى قوله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) لو فسرنا " نقدر " هنا بمعنى نستطيع لكان فى إيمان سيدنا يونس خلل، إذ كيف يظن نبى ورسول أن الله عاجز عن إدراكه؛ ولكن لو رجعنا إلى المادة اللغوية لوجدنا أن الفعل هنا مستعمل بمعنى التضييق أى فظن أن لن نضيّق عليه، لأنه خارج للدعوة إلى الله فى مكان آخر، بعد أن رفض قومه الاستجابة له؛ غير أنه خرج دون إذن من ربه، ومن هنا ضيق عليه فى بطن الحوت؛ وبهذا المعنى ورد قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) وقوله تعالى: ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ).
على أن بعض النحاة قد فهم الفعل " يقدر " فى آية ذى النون بمعنى: يؤاخذ لأن المؤاخذة مبنية على القدرة.
7 - فى قوله تعالى: ( وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ) وردت كلمة " عرضة " فى اللغة بمعنى كل شىء اعترض ومنع، كما وردت بمعنى الشىء المعرّض المبتذل بكثرة؛ والآية صالحة لكلا المعنيين على أساس أن الله ينهى أن يُحْلَف به على منع خير، كصلة رحم مثلاً ثم يحتج الحالف بأنه لو لم يحلف لوصل رحمه.. كما أنه ينهى عن كثرة الحلف بالله كما ذمه فى آية أخـرى فى قوله: ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)
8 - قد يبين المعنى اللغوى الحكمة فى اختيار القرآن لفظًا معينًا له ظلال، أو له إشارة إلى حكم، أو ضابط حكم، ومن ذلك قوله تعالى: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) فقد اختـار لفظ " تثقف " بدل " تجد " أو " تلقى "، وفى ذلك حكمة؛ إذ كلمة " ثقف " تعنى: وجده بحيلة وذكاء ودهاء، فكأن الآية باختيارها هذا اللفظ توحى للمسلمين أن يستعملوا الحيل والفطنة؛ ووضع كل الاحتمالات لضبط هؤلاء اليهود وهم مختبئون خلف حصونهم، أو خلف الغابات، فإن من طبيعتهم الجبن كما قال سبحانه: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ) .
9 - ومن ذلك اختيار لفظ " القنوت " فى وصف المرأة الصالحة، بدل لفظ الطاعة لأن القنوت هو الطاعة فى خضوع، ومن المفروض شرعًا أن تكون المرأة قانتة لله دائمًا، ولأبيها قبل زواجها، ولزوجها بعد خروجها من بيت أبيها، فالقنوت وصف دائم لها، ومن هنا جاء قوله تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) وقوله: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) وقوله مخاطبًا نساء نبيه حين بدا من بعض نسائه تدلل وتذمر: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ) ، وقوله عن مريم: ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) .
10 - ومن ذلك اختيار كلمة " الفسق " بدل " الخروج " لأن الفسق فى اللغة خروج إلى التهلكة، تقول العرب حين يرون نضج البلح على الشجر، يحثون صاحبه على جَنْيه قبل أن يفسد: فسقت الرُّطَبة عن قشرها - ويقولون: فسقت الفأرة عن جُحرها، لأن الرطبة إذا انخرمت قشرتها تعرضت للميكروبات ففسدت، والفأرة إذا خرجت من جحرها تعرضت لأعدائها فأكلتها.
11 - ومن ذلك قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ) بدل: يزيل أثره فى زيادة المال، لأن المحق فيه إشارة إلى الإزالة الكلية للأصل والربح معًا.
12 - ومن ذلك استعمال كلمة " الصلاة " بدل: الدعاء أو الانحناء، لأن فى الصلاة إشارة إلى ما كان يحدث من العرب حين يلتقون بعظيم، ينحنون له إكبارًا وإجلالاً، وحين يلتقون بيتيم أو مريض ينحنون له إشفاقًا وحنانًا.. فاستعمل القرآن لفظ الصلاة المأخوذ من الصلا وهو واحد الصلوين المحيطين بفقرات الظهر، ليدل على الصلاة لله خضوعًا وتعظيمًا، والصلاة على رسوله أو على الجنازة حنانًا وحبًا وإشفاقًا.
13 - قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) الحكمة فى معناها اللغوى مأخوذة من حَكَمَة الدابة، أى لجامها الذى يتحكم فى سيرها.. ومن هذا المعنى اللغوى قيل عنها إنها: وضع الكلمة المناسبة للشخص المناسب فى الوقت المناسب، لأن راكب الدابة إذا رأى أمامه خطرًا حوّل وجهة فرسه إلى طريق آمن، أو توقف بالكلية.
الأثر المعنوى لمعرفة الصيغ
مثّل علماء الصرف المادة اللغوية المجردة بالذهب المذاب: يوضع فى قوالب مختلفة فتظهـر منه أشكال متعـددة، فهذا " قـرط " وتلك " أسورة " وهذا " عقد " وذاك " خاتم " بحسب الإطار الذى وضع فيه.. وطبقوا هذا المعنى على المادة اللغوية حين تصاغ على أوزان وصيغ، فكما لا يقال عن الخاتم والأسورة والعقد: إنها ذهب فقط، كذلك لا يقال عن التقوى، والمتقى، والوقاية، والتقىّ: إنها بمعنى الحفظ فقط؛ فكل صيغة من هذه الصيغ لها دلالة خاصة؛ فالتقوى اسم مصدر من الفعل: اتّقى الدال على التكلف والمشقة، أو على الاتخاذ والامتلاك، كما نقول: استمع فلان فنفهم أنه بذل جهدًا فى الإصغاء متعمدًا، وإذا قلنا: سمع فلان فلا يدل على أكثر من إدراك سمعه لشىء دون تكلف أو تعمق، وإذا قلنا: اختتم فلان بالفضة علمنا أنه اتخذ وامتلك خاتمًا.
ومن هذين المعنيين نفهم أن كلمة " اتقى " ومنها التقوى تدل على أن صاحب هذا الحدث قد بذل جهدًا فى الوصول إلى اتخاذ وقاية من غضب الله، وهذا الجهد متمثل فى القيام بتكاليف الشرع فى تنفيذ الأوامر، والبعد عن المنهيات، فإذا قيل لنا: إن التقوى هى فعل الطاعات، واجتناب المعاصى.. علمنا أن هذا القول نتيجة لهذه الصيغة؛ أما المُتّقِى فهو على صيغة اسم الفاعل الدال على التجدد والحدوث لهذا الفعل؛ وأما التقىّ فهو على صيغة الصفة المشبهة الدالة على الدوام والثبوت؛ ونخلص من هذا المعنى الذى حملته إلينا الصيغة أن من بذل جهدًا فى التقرب إلى الله، وحفظ حدوده.. فقد اتخذ لنفسه وقاية وحفظًا وحراسة من الله لأن من حفظ الله حفظه الله.
1 - ومن أمثلة هذا المعنى الصيغى أن القاعدة الصرفية تقول: إذا أردنا صوغ اسم الزمان واسم المكان من مصدر الفعل الأجوف اليائى جاء على وزن " مَفْعِل " وتحديد الدلالة على الزمان أو المكان يرجع إلى السياق.. وهناك رأى لبعض العلماء معتمد على كثرة السماع يرى أن المصدر الميمى أيضًا يصاغ قياسًا من هذا الباب على هذا الوزن، وعلى وزن " مَفْعَل " أيضًا، مثل السير مصدرًا للفعل " سار " يأتى منه اسم الزمان والمكان على"مسير" ويأتى المصدر على " مسار " و" مسير "؛ ودلالة المصدر كما هو من البدهيات على مجرد الحدث.. وفى ضوء هذه القاعدة نقرأ قوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ) فنجد كلمة المحيض - وفعلها حاض يحيض ومصدرها الحيض - من هذا الباب فهل هى اسم زمان أو اسم مكان أو مصدر ميمى ؟ فى الموضع الأول: يترجح كونها مصدرًا ميميًا، ورد بمعنى اسم الفاعل، لأن السؤال عن الحيض بمعنى الدم النازل من المرأة فى
العادة الشهرية، ولذلك كان الجواب بأنه أذى يخرجه الله من المرأة، وهو أذى للرجل والمرأة حين يقترب منها أثناء نزوله، أما الموضع الثانى: فإنه صالح للاحتمالات الثلاثة، وإن كان احتمال اسمى الزمان والمكان أرجح، فالأمر بالاعتزال موجّه للرجال فى زمن الحيض وفى مكانه، وبذلك يكون تفصيل رسول الله لمكان الاعتزال بيانًا فقط لما أجمل فى هذه الصيغة، فبمجرد انتهاء زمن الحيض يحل للرجل الاقتراب منها - كما أن المحظور على الرجل فى هذه الأثناء أن يقترب من موضع خروج الدم فقط وما عدا ذلك حلال.
أرأيتم هذا الإعجاز فى الإيجاز بسبب إدراك معنى الصيغ.
2 - ومن هذا الباب قوله تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) فإن معاجم اللغة تدل على أن القسط بفتح القاف هو الظلم والجور، وقد ورد على هذا المعنى قوله تعالى: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) لكن هذا الفعل " قسط " إذا دخلت عليه الهمزة أفاد معنى العدل وتسمى هذه الهمزة همزة السلب والإزالة، فإن سلب الظلم هو العدل؛ فإذا قال تعالى: ( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فهمنا أن الله يطلب منا إزالة الظلم لأنه يحب ذلك؛ وتأتى كلمة " القسط " بكسر القاف اسم مصدر من الإقساط بمعنى: إزالة الظلم أيضًا ويكون قوله تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بمعنى أمر بالعدل.
وبهذا المعنى الذى تدل عليه همزة السلب وردت أمثلة كثيرة عن العرب حيث يقولون: أعجمت الكتاب بمعنى أزلت عجمته، وأشكيت فلانًا بمعنى أزلت شكواه، وأقذيت عينه بمعنى أزلت القذى عنها وهكذا.
3 - ومما يتصل باسم المصدر ما نتداوله فى التحذير من الغيبة والنميمة، ذلك أن بعض الوعاظ ينطقون الغيبة بفتح الغين وذلك خطأ، لأن الغيبة بهذا الضبط مصدر للفعل " غاب "، والغياب ليس داخلاً فى الكبائر، إنما المنهى عنه أن تذكر أخاك بما يكره وهو غائب، والذى يؤدى هذا المعنى الفعل: " اغتاب " اغتيابًا؛ واسم المصدر منه الغيبة بكسر الغين لا بفتحها؛ ونسميه اسم مصدر لأنه دل على معنى المصدر ونقصت حروفه عن حروف فعله كما فى قول الله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) فالخـيرة اسم مصـدر من الفعل " اختار يختار اختيارًا ".
4 - قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ) اختلف المفسرون فى هذه الآية حيث يورد الجهلة سؤالاً: كيف يأمر الله المترفين بالفسق ؟ فقال بعضهم: إن مفعول الأمر هنا محذوف لفهمه من السياق وكان الأصـل: أمرنا مترفيها بالطاعة والإصلاح ففسقوا وأفسدوا.. وقال المحققون: إن هناك قراءة متواترة تنطق هذا الفعل بمد الهمزة: آمرنا؛ ومعناه: كثّرناهم لأن الهمزة هنا نقلت الفعل من اللزوم إلى التعدى، والفعل هو " أمِر " بكسر الميم وهو يدل على معنى: كثر، ومنه قول أبى سفيان للعباس يوم الفتح عن النبى صلى الله عليه وسلم: لقد أَمِر أَمْرُ ابن أخيك؛ أى ظهر وانتشر؛ وهذا المعنى - فى تلك القراءة - هو نفسه فى القراءة المتداولة لحفص على الطريقة الأخرى للتعدية، ففى القراءة الأولى تعدى الفعل بزيادة الهمزة وفى القراءة الثانية تعدى بتغيير الصيغة إلى باب: نصَر ينصُر، فصار المعنى: أمرنا مترفيها أى كثّرناهم فيتفق معنى القراءتين؛ وتكون كلمة " مترفيها " مفعولاً به ولا حذف فى الآية؛ ويتفق ذلك مع الواقع التاريخى أن الله إذا أراد إهلاك أمة كثر فيها المترفون فطغوا وأفسدوا..
5 - قال تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كثر فى هذه الآية كلام المفسرين من حيث إن المادة اللغوية فى اللفظين واحدة، هى الرحمة؛ فمن قائل إنه رحمان الدنيا رحيم الآخرة، أو المنعم بالنعم الكبرى والصغرى.. وهكذا؛ لكن الاحتكام إلى دلالة الصيغة هو الذى يعطينا الفرق بين اللفظين، ببيان واضح مقبول شرعًا وعقلاً ولغة؛ ذلك أن صيغة " فعلان " فى الصفة المشبهة تدل على بلوغ الوصف منتهاه وذلك مثل فرحان أو شبعان، ومثل: جوعان أو ظمآن؛ وصيغة " فعيل " تدل على الانتشار والذيوع مثل: كريم، حليم، لطيف..
وحين نطبق هذا المعنى على الآية بعد تحويل فعـل: رَحِم - بكسر الحاء - المتعدى إلى رَحُم بضمها اللازم للدلالة على الكثرة واللزوم والدوام، كما هو الشأن فى صياغة الصـفة المشبهة.. نجد أن المعنى فى وصفه تعالى بالرحمن أنه اتصف بالرحمة اتصافًا ذاتيًا وبلغت عنده مبلغًا لا يمكن أن يصل إليه مَن سواه، وفى وصفه تعالى بالرحيم يعنى أن رحمته وسعت كل شىء وانتشرت وعمت كل الخلائق.
ومن هنا يقول الإمام ابن قيم الجوزية: " الرحمن صفة ذات والرحيم صفة فعل "؛ ومن هنا أيضًا لا يطلق لفظ الرحمن إلا على الذات العلية ولا يوصف به مَن سواه إذ هو مرادف للفظ الجلالة فى مثل قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ*الرحمن *عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) .
6 - فى قوله تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) جاء وصف النبى هنا بضيق الصدر من مواقف قومه، وهو إذا كان ملازمًا للإنسان كان خلقًا سيئًا، وهذا ما يتنافى مع وصف النبى بأنه على خلق عظيم، ولهذا جاء الوصف بصيغة اسم الفاعل الدالة على التجدد والحدوث بعد أن لم يكن موجودًا، فهو طارئ غير ملازم..
أما حين وصف القرآن جهنم بالضيق فأنه لم يأت بصيغة اسم الفاعل وإنما جاء بصيغة الصفة المشبهة الدالة على الثبوت والدوام والملازمة فقال عنها: ( أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ )( وعلى هذا الوزن جاء: طيّب هيّن، ليّن، سيّد، ميّت.
7 - فى قوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) كلمة الصراط مأخوذة من: سرط الشىء إذا ابتلعه فى يسر وسهولة، وهذه اللفظة هى التى حرفت فى اللغة العامية إلى: زلط؛ غير أن اختيار صيغة " فِعال " لطريق الإسلام.. فيه دلالة أخرى غير الدلالة اللغوية، ذلك أن هذه الصيغة تستعمل فى اللغة للاشتمال والإحاطة مثل الإزار، الرداء، اللحاف، الغطاء، الخمار، الإطار؛ فهى إذن فى الصراط إشارة إلى أن من يدخل فى الإسلام يجده سهلاً، كما يبتلع المرء اللقمة فى سهولة ييسرها له البلعوم بما فيه من مادة مخاطية، وهذا هو المعنى اللغوى، وهو كذلك يغطى كل احتياجاته بحيث لا يفتقر إلى رافد آخر يأخذ منه رأيًا أو حكمًا أو توجيهًا؛ وهذا هو المعنى الصيغى.
8 - قال تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) الفقه فى اللغة هو الفهم والإدراك، أما التفقه فهو التعمق والتكلف للفهم، وهذا المعنى مأخوذ من الصيغة التى أتى عليها هذا الفعل.
وبهذه الصيغة نفهم أن القرآن يوجه طلاب العلم أن يبذلوا أقصى جهدهم للتعمق فى فهم الدين لأن الفهم السطحى قد يؤدى إلى الفساد فى فهم أحكام الله..
ومن هذه الصيغة استدل جمهور الفقهاء على ضرورة اغتسال الحائض بعد انقطاع الدم قبل أن يباشرها زوجها، لأن الطهر يطلق لغة على النقاء من الحيض، وعلى الاغتسال، أما التطهر فهو المبالغة فى الطهر مع تحصيل المشقة فى ذلك، وهذا لا يتأتى إلا بالغسل والآية تقول:( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ).
9 - قوله تعالى: ( هُمْ مِنْهَا عَمُونَ) العمى قد يكون للعين وقد يكون للقلب، فعمى البصـر يأتى فى اللغة وصـفه على صيغة " أفعل " فيقال فيه: أعمى، ويجمع على: عُمْى وعميان؛ كما فى قولك: أعرج، أصفر، أحول، أكتع.. أما عمى البصيرة فيأتى الوصف منه على صيغة " فَعِل " فيقال: عَمٍ وجمعه: عَمُون؛ كما فى قولك: قلق، أرق، فرح، جزع، حزن، لبق، جشع؛ فإذا وصف الله الكافرين هنا بأنهم عَمُون فهمنا أنه يقصد أن عماهم فى بصائرهم وقلوبهم، كما قال عن قوم نوح:( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ) تحقيقًا لقوله تعالى: ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) .
10 - قـوله صلى الله عليه وسلم: » فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ «؛ الفقه - كما سبق - هو الفهم، لكن إذا أريد الدلالة على هذا المعنى فقط جاء الفعل على صيغة " فَعِل يفْعَل " فيكون: فَقِه يفْقَه مثل فَهِم يفهم وعَلِم يعلم؛ أما إذا أريد وصول هذا الفهم إلى درجة الملكات الثابتة والغرائز الدائمة بحيث يتصف بموهبة الفقه جاء التعبير بصيغة " فَعُل " كطهُر وشرف وكرم.
وهذا ما يريده النبى صلى الله عليه وسلم لمن ينتفع بعلمه وهُـدَاه، فينفع نفسه وغيره؛ ويكون الفقه لديه كالطبيعة والغريزة التى خلق عليها.
الأثر المعنوى لمعرفة الموقع الإعرابى
أشرنا فيما سبق إلى أن القارئ أو الدارس للنص الشرعى لابد له بعد أن يدرك المعنى اللغوى للكلمات الواردة فى النص على أساس ما كان مستعملاً لدى العرب فى أثناء نزول الوحى - من حيث نزل بلسان عربى مبين - وبعد أن يدرك الصيغة التى وردت عليها تلك الكلمات.. لابد له أن يعرف موقع كل كلمة فى هذا النص - من حيث الإسناد والعلاقات التركيبية فى الجملة المفيدة - حتى لا يُنْسَب حدث إلى مَن لم يقم به، فيختلف المعنى المراد للشرع، وينحرف عن مساره، كما أشرنا إلى أن الذى يتكفل بهذه المعرفة هو علم النحو الذى يحدد الموقع الإعرابى لكل كلمة من خلال قواعده واحتمالاته؛ والأمثلة الآتية توضح أثر هذه القواعد فى استنباط المعنى والحكم الشرعى:
1 - قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) اختلف الفقهاء فى وجوب القصاص بين الحر والعبد فيما إذا قَتَل الحر عبدًا هل يُقْتل فيه أم لا ؟ وكان معتمدهم الأساسى فى فهم تركيب هذه الآية.
فمن رأى وجوب ذلك وقف على قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) وكلمة القتلى عامة تشمل الحر والعبد وجعل الجملة التى تليها: ( الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ) مستقلة عما قبلها، حيث تستنكر هذه الجملة على العرب عادة الكبر والتعالى القبلية، فحين كان يُقْتل عبد من قبيلة تَقْتُل أمامه حرًا من القبيلة القاتلة أخذًا بالثأر.
وإذن فهى تقر مبدأ المساواة، وأول الآية كآخرها وكأنها تقول: دماء البشر متساوية فى الحرمة، والعدالة تقتضى أن يُقْتَل القاتل بصرف النظر عن مكانته، فإذا قَتَل الحرُّ حرًا قُتِل فيه، وإن قتل العبدُ عبدًا قتل فيه بلا تمييز.
ومن رأى عدم التساوى بين العبد والحر ولم يوجب القصاص على الحر جعل الجملتين جملة واحدة، واعتبر الثانية مفسرة لكلمة القتلى فى الجملة الأولى.. فكأنه قال: كتب عليكم القصاص فى القتلى إذا كان حرًا بحر أو عبدًا بعبد، أما إذا اختلفا فلا قصاص على الحر إذا قتل عبدًا لأنه أدنى منه مكانة.
2 - قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) اختلف الفقهاء فى تحديد ما يسقط بالتوبة عن القاذف من العقوبات المفروضة عليه فى هذه الآية، ويرجع اختلافهم إلى القواعد النحوية التركيبية، ذلك أن الجملة يمكن أن ينتهى فيها الخبر عن اسم الموصول:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ) عند قوله: ( ثَمَانِينَ جَلْدَةً )، وتكون العقوبة التى لا مناص منها هى الجلد، ثم تبدأ جملة جديدة من قوله: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (على أساس أن الواو للاستئناف، ثم يأتى الاستثناء:(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ) فتكون التوبة مسقطة للعقوبتين: عدم قبول الشهادة ووصفهم بالفسق.. فيعود القاذف بالتوبة إلى صفوف المسلمين، تقبل شهادته ولا يوصف بفسق.
كما أن الأسلوب يحتمل معنى آخر وهو أن تكون الواو فى قوله:( وَلا تَقْبَلُوا ) عاطفة على قوله:(فَاجْلِدُوهُمْ ) فيكون من اللازم جَلْدُه ورفضُ شهادته مطلقًا سواء تاب أم لم يتب؛ وتكون جملة:(وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) هى المستأنفة، وبخاصة أنها خبرية، ويكون الاستثناء منها فقط، فالتوبة إذن لا تسقط إلا وصفه بالفسق؛ والمعتمد فى كلا الرأيين على ملحظ نحوى تركيبى هو اعتبار الواو حرف استئناف أو حرف عطف.
3 - قـوله تعـالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) الدارس للغة العربية دراسة سطحية يعلم أن " إلا " لا تأتى إلا للاستثناء مما قبلها أى أن ما بعدها جزء مما قبلها.. وهذا المعنى لو طبق فى هذه الآية لأدى إلى فساد فى العقيدة، إذ سيكون المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة والله منهم لم تفسدا.. لكن المتعمق فى اللغة يعلم أن " إلا " هنا ليست للاستثناء ولكنها بمعنى " غير " وأن المعنى: لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا.
4 - قوله تعالى: ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) لو أخذنا بظاهر اللفظ فى تلك الآية لكانت الكلاب المعلمة حلالاً أكلها بنص الآية، إذ أحل الله الطيبات، وعطف عليها المعلّم من الكلاب؛ لكن النحو حين يتدخل بقاعدته المشهورة " قد يحذف المضاف فيقوم المضاف إليه مقامه " ترى الجملة يستقيم معناها المقصود، وتفهم على أن الذى أُحِلّ هو صيد الكلاب المعلمة لا نفس الكلاب بدليل آخر الآية: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )(2) وتقدير الآية على قاعدة النحاة: أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح؛ أو إعراب ( وَمَا عَلَّمْتُمْ ) مبتدأ، وجملة خبره.
5 - قوله تعالى: ( وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا ) المعهود فى اللغة أن فعل النصر يتعدى بحرف الجر " على " لكنه هنا لم يقل " ونصرناه على القوم " وإنما قال:( وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ ) فما السر فى ذلك ؟ يجيب النحاة بأن الفعل إذا تضمن معنى فعل آخر تعدى تعديته، وهنا ضُمِّن فعلُ النصر معنى النجاة والانتقام فإن هؤلاء الذين كذبوا " نوحًا " بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وسخروا منه وهددوه بالرجم.. لا يستحقون من الله إلا الانتقام بالإغراق فى الطوفان، أما هو ومن معه من المؤمنين فلهم النجاة فانظر كيف أدى التضمين هنا معانى النصر والنجاة للمؤمنين والانتقام من الكافرين.
6 - قوله تعالى: (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ) السطحيون يقولون إن الباء هنا بمعنى " من " أى يشرب منها عباد الله؛ ولكن المحققين المتعمقين يقولون: إن القرآن الكريم لم يضع حرفًا مكان حرف إلا لعلة وسبب، قد يخفى علينا فى زمن، وقد يظهر فى زمن آخر، وهذا سر من أسرار الإعجاز، ومن هنا تأتى قاعدة التضمين لتحل هذا الأسلوب إلى معنى جميل: ذلك أن الشارب قد يشرب الشىء وهو مكره كالمريض حين يحتسى الدواء، وقد يشربه ولا يرتوى به بل يزيده عطشًا على عطش، لكن الشارب فى الجنة يشرب من تلك العين وهو متلذذ مرتو مستمتع بها وعلى هذا فالفعل " يشرب " فى الآية متضمن معنى: يرتوى ويتلذذ.
7 - ومن هذا الوادى قوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة: » أرحنا بها يا بلال « إذ لم يقل: أرحنا منها؛ من حيث إن الباء تفيد السبب، فهى التى تحقق الراحة.
8 - ومنه كذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) ولم يقل: " الذين هم فى صلاتهم ساهون " فالسهور عن الصلاة ترك لها.
9 - كما أن من فوائد التضمين فهمُ قوله تعالى: ( لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) من حيث إن الفعل " قعد " يتعدى بحرف الجر، ولا يتعدى بنفسه، وهو هنا قد تعدى إلى المفعول به بنفسه، فجعل(صِرَاطَكَ ) منصوبًا به، ولا يتأتى هذا إلا بتضمين " أقعد " معنى " ألزم " أى لألزمن صراطك المستقيم قاعدًا فيه أُوَسْوِس لهم أن يتركوه.. ذلك أن القعود من شأنه أن يكون طارئًا متجددًا، يفارقه المرء إلى المشى، وإلى الوقوف، وإلى النوم، لكن الشيطان لا يفارق الطريق المستقيم ملازمًا إياه، يصد الناس عنه، ولا ييأس من ذلك ولا ينتقل عنه؛ والذى أفادنا ذلك هو التضمين.
10 - من هذا الباب أيضًا قولنا حين الرفع من الركوع: " سمع الله لمن حمده " فإن الفعل " سمع " متعد بنفسه إلى المفعول قال تعـالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) وقال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ) ولكنه هنا تعدى باللام لملحظ هام، ذلك أن السماع قد يكون لشكوى كما فى الآية الأولى، وقد يكون لقول مكروه منكر كما فى الثانية.. ولكن السماع هنا تضمن معنى الاستجابة، إذ وعد الله الشاكرين بالمزيد من النعم فى قوله سبحانه: ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) فمن يحمد الله يكون طالبًا بطريق غير مباشر أن يزيده الله من فضله، ومن هنا كانت اللام فى " سمع الله لمن حمده " أى سمع واستجاب له.
11 - قوله تعالى: ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) اختلف الفقهاء فى اعتبار التعدد للزوجات هل هو الأصل ؟ أو الأصل الإفراد ؟ ولكل من الرأيين فى هذه الآية دليل.. فمن اكتفى بجواب الشرط ورأى أن الجملة قد تمت عند قوله:( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) كانت الآية دالة على أن الأصل هو ما يرضى الزوج ويعفه، سواء كانت واحدة أم أكثر.. وتكون الجملة الثانية محذوفة العامل وكأنه قال: " لماذا تتمسكون بالزواج من اليتامى وقد أبحت لكم مثنى وثلاث ورباع والنساء غيرهن كثير "..
أما من جعل كلمة " مثنى " وما بعدها حالاً من " ما طاب لكم " فأنه رأى أن الأصل التعدد؛ فانبنى كل رأى على وجه نحوى.
12 - قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) لو جعلنا الجار والمجرور(عَلَيْكُمْ ) متعلقًا بالفعل (حَرَّمَ ) ووقفنا على ذلك وبدأنا تعداد المحرمات من قوله:( أَلَّا تُشْرِكُوا).. كان عدم الشرك محرمًا مما قد يفيد أن الشرك هو المطلوب، أما إذا جعلنا الجار والمجرور متعلقًا بمحذوف هو الخبر مقدمًا على المبتدأ وهو المصدر المؤول من قوله:( أَلَّا تُشْرِكُوا) كان المعنى: عليكم عدم الإشراك؛ أى أنتم ملزمون بعدم الإشراك ويستقيم المعنى فى كل ما سيأتى بعد ذلك من مثل:( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً )؛ ويمكن أن تكون " عليكم " اسم فعل أمر بمعنى الزموا عدم الإشراك... إلخ.

الأثر المعنوى لمعرفة السياق
من ذلك:
1 - قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ) المعروف فى الأسلوب العربى أن المشبه به أقوى فى وجه الشبه من المشبه، والمفروض أن الثروة الاقتصادية النظيفة تقوم على التجارة فى البيع والشراء، وأن المكسب الناتج من البيع هو الأصل.. لكن الآية هنا تحكى عنهم تشبيهًا مقلوبًا فيشبهون المكسب الناتج عن البيع بربح الربا.. إشارة إلى أن الوضع الاقتصادى عندهم قد انقلب رأسًا على عقب، فصار الربا عندهم هو مصدر الثراء، وأن البيع ملحق به، وهذا محل السخرية منهم والعجب من أوضاعهم، حيث يعقب الله على ذلك: ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) ).
2 - قوله تعالى: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) أسلوب الحصر بالنفى والاستثناء أو بـ " إنما " أسلوب توكيدى يقصر حكمًا على شىء أو شيئًا على حكم.. وعند هذه الآية وقف بعض الفقهاء الأجلاء أمام هذا الحصر الإلهى للمحرمات فى أربعة أشياء فقط، مع أن الحديث النبوى الصحيح أضاف إليها كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير والحمر الأهلية وغير ذلك.. فتساءل كيف يحصر الله ما حرم فى أربعة ثم يضيف النبى إليها ؟.. هل تنسخ السنة القرآن ؟ وعلى ذلك رأى أن كل ما حرمه النبى غير هذه الآية يدخل فى باب الكراهة التحريمية.
أما الإمام الشافعى فإنه انتفع بقواعد البلاغة هنا فى تقسيم القصر إلى حقيقى وإضافى.. واستحضر ما كان عليه الجاهليون من اعتراضهم على المسلمين فى تحريم الميتة حيث قالوا: كيف تحلون ما قتلتم وتحرمون ما قتل الله ؟ وفى تحريمهم للدم مع أنه خلاصة الغذاء، بل إنهم كانوا يفصدون الإبل، ويشوون الدم الناتج عن الفصد ويقدمونه للضيوف، والمثل المشهور عن حاتم: هذا فصدى أَنَهْ، وفى تحريمهم للخنزير مع لذة لحمه وشبهه بالأنعام، وفى تحريمهم لما ذبح للآلهة مع أنه قربان.. وإذن فقد كان الخلاف بين المسلمين والكفار حينذاك منصبًا على هذه الأربعة، فجاءت الآية ومثيلاتها فى قوله تعالى: ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ) لتقول لهم: إن ما ادعيتم حِلّه هو الحرام بعينه؛ فيكون ردًا على معتقداتهم وليس حصرًا حقيقيًا؛ كما يكون بينك وبين أحد خلاف فى تفضيل عالم على آخر فتقول له: إنما العالم محمد؛ فأنت هنا لم تنف العلم عن غير محمد، ولكنك حين نظرت إلى علمه وإلى علم غيره وجدت علم غيره كلاشىء بالنسبة لعلم محمد، فادعيت أن محمدًا هو العالم.. وكذلك هنا ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة لما حرمه الله شىء يسير فلا نسخ.
3 - قوله صلى الله عليه وسلم: » ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ «؛ اختلف الفقهاء فى فهم معنى الحديث ففهمه البعض على أن ذكاة أمه ذكاة له فيؤكل، فلا تشبيه، وفهمه البعض الآخر على معنى التشبيه أى أنه يذكى مثل ذكاة أمه؛ الأول أحلّ الجنين إذا سقط بعد ذبح أمه ميتا، والآخر حرّمه..
4 - قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) قال عروة بن الزبير لخالته عائشة أم المؤمنين بعد أن قرأ هذه الآية: إذن فما على أحد جناح فى ألا يطَّوَّف بهما؛ قالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختى؛ لو كان كذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطّوف بهما.. ذلك أن المسلمين تحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة بعد إسلامهم، لأن الصفا كانت موضع الصنم إساف والمروة كانت موضع نائلة وكان السعى بينهما فى الجاهلية تعظيمًا لهذين الصنمين، فلما تأثموا من ذلك جاءت الآية ترفع عنهم الحرج والجناح فى الطواف حولهما
5 - قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) يستدل بها الكثيرون على فضل العالم على الجاهل مطلقًا ويهملون دلالة السـياق فيما قبلها، فإن أول الآية يقـول:(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) بداية الآية ونهايتها تتحدث عن أثر العلم فى سلوك الإنسان، فالعالم الحق هو الذى يخشى ربه، فيظل قانتًا وساجدًا طول الليل داعيًا وراجيًا وخائفًا، وهو الذى يتذكر حق ربه ويتدبر آياته؛ وإذن فكم من عالم كان الجاهل خيرًا منه، ذلك الذى لا يعمل بما علم، وهو أول من تسعّر بهم نار جهنم يوم القيامة.
6 - قوله تعالى: ( َمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) يستدل بها المحدثون على حرية العقيدة فى الإسلام، فمن اختار الكفر فلا حظر عليه، ويبطلون حـد الردة، وذلك من خطـل التفكير
ومجاراة الحضارة الغربية ولىّ عنق النصوص لتساير الحاضر.. وقرينة السياق هنا تفيد أن المقصود هو التهديد لمن يكفر بدليل أن ما بعد هذه الجملة قوله تعالى: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) .
ومن أمثال هذا قوله تعالى: ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهل معنى الأمر هنا إباحة للإنسان أن يفعل ما يشاء دون حساب أو أن ختام الآية يهدده برقابة الله.
7 - قوله تعالى فى سورة البقرة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) وقـوله: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) وقـوله: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ) الإتيان بهذه الأمور الثلاثة بلفظ واحـد، وبتعبير متماثل، هو الكتابة والإلزام بقوله (عَلَيْكُمُ ) يلفت النظر إلى العلاقة بين هذه الأوامر، فكل منها مكتوب وموثق، والأمر به ملزم، وكل منها مكروه، ونحن مكرهون عليه لمصلحتنا التى لا نعلمها كما يعلمها ربنا.. وإذا كان لنا أن نستنبط العلاقة بينها فإننا نرى الصيام محققًا للأمن النفسى، حيث يعيش الصائم فى رقابة ربه، ويشعر باستعلائه على المادة، وأنه مادام مع الله فلا يخاف من شىء ولا على شىء؛ والقصاص محقق للأمن الداخلى فى المجتمع من حيث إن المجرم حين يرى غيره قد اقتص منه لا يقدم على إجرامه ومن هنا جاءت الآيـة: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) ؛ أما الجهاد فإنه يحقق الأمن الخارجى للأمة إذ ما تركت أمة الجهاد إلا أذلها الله، وإذن فمجموع هذه الأوامر هو الذى يحقق الأمن الشامل للفرد وللأمة.

هذا وللتعمق فى اللغة أثره فى فهم كل جملة فى كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما انحرف بعض شبابنا عن الإسلام الصحيح إلا بجهلهم بمعطيات اللغة العربية، سواء فى النصوص الخاصة بالعقيدة أم بالشريعة أم بالقصص القرآنى.. وإذا استرسلنا فى ذلك فسنجد أنفسنا أمام كلام الله عاجزين عن الوفاء بحقه.. وإن أنس لا أنس ذلك الشاب المتحمس حين قال لى: أنتم تقولون إن الأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوة وأنا آتيك بآية فى كتاب الله صريحة فى نسبة الشرك لنبى ورسول مشهور.. قلت له: هات الآية يا بنى، قال: يقول سيدنا " شعيب ": ( قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) فهو هنا يعترف أنه كان فى ملتهم قبل الرسالة، وبأنه لن يعود إليها؛ قلت له: ما أجهلك بلغة قومك يا بنى.. إذا كان فهمك هذا صحيحًا فكل الرسل - وليس شعيبًا وحده - كانوا مشركين، ذلك أن الله عز وجل يقول فى سورة إبراهيم: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) فكل الرسل هددوا بالإخراج من أرضهم، أو الدخول فى ملتهم.. فهل كان إبراهيم مثلاً مشركًا قبل الرسالة ؟ إن الجهل باللغة هو الذى أدى إلى هذا الفهم السقيم فإن اللغة تقول إن الفعل " عاد " إذا تعدى بحرف " إلى " كان بمعنى: رجع أما إذا تعدى بالحرف " فى " فأنه بمعنى " دخل " وإذن فمعنى ( أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) أى تدخلن، ومعنى ( إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ ): إن دخلنا فيها بعد إذ نجانا الله من الدخول فيها.. إن النبى صلى الله عليه وسلم حين حدد ثلاثة أمور للشعور بلذة الإيمان جعل منها: » وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ « فهل معنى ذلك أن المرء لا يدرك لذة الإيمان إلا إذا كان كافرًا وأسلم؟!
إن فهم اللغة التى نزل بها الوحى هو السبيل الوحيد لفهم مراد الله عز وجل .. وكم من شبهات بنيت على مغالطات لا يحلها إلا الاستعمال العربى الفصيح..
نصيحتى للشباب المتحمس لدينه المستعد لتبليغ دعوته أن يلتزم بما ألزمنا به الله أن يكون بلاغنا مبينًا، وهو لن يكون كذلك إلا إذا فهمنا خصائص هذا البيان، وفهمنا أسلوب نبينا الذى حصـره الله عز وجل فى قوله: (أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) .
فهيا - يا أصحاب الدعوة - إلى فقه ديننا بلغة قرآننا، وسنة نبينا، حتى نكون على بصيرة من أمرنا، وحتى نكون أهلاً لتبعية نبينا، قال تعالى: ) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين ومن المقصرين فى حق رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على خاتم رسله وخير خلقه أجمعين.



  مشاركة رقم : 2  
قديم 10-19-2015
نعمة حكيم
قسم الاسرة والحياة الزوجية

رقم العضوية : 15
تاريخ التسجيل : Jul 2014
المشاركات : 1,113
بمعدل : 0.31 يوميا
معدل تقييم المستوى : 11
المستوى : نعمة حكيم نشيط

نعمة حكيم غير متواجد حالياً عرض البوم صور نعمة حكيم



كاتب الموضوع : محمد فرج الأصفر المنتدى : قسم اللغة العــربــية
افتراضي رد: أثر الدرس اللغوي في فهم النص الشرعي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بحث طيب جزاكم الله خيرا شيخنا الفاضل


إضافة رد


مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المعني, الحرس, الشرعي, النص

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الساعة الآن 01:31 PM.

Powered by vBulletin® Version v3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, by Sherif Youssef
ما يطرح بالمنتدى لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وإنما تعبر عن وجهة نظر كاتبها أو قائلها