سؤال الفتوى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سمعت درس للشيخ/ صلاح الدين إبراهيم إمام المسجد الأقصى يقول بأن مسافة قصر الصلاة هي ثلاثة أميال وهذا ما ورد فيه الحديث عن أنس وبخلاف ما يفعله الناس الآن . فهل هذا الرأي صحيح؟
< جواب الفتوى >
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وقع الخلاف الطويل بين علماء الإسلام في مقدار المسافة التي يقصر فيها الصلاة والفطر وكذلك المدة ، ويرجع ذلك الخلاف بسبب كثرة الروايات وأقوال الصحابة المتعارضة في هذا الباب ، وأنه لم يثبت نصٌ صحيح صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحديد مسافة السفر ، وقد حكي ابن المنذر وغيره نحواً من عشرين قولاً.
الأصل في قصر الصلاة الكتابُ ، والسنةُ ، والإجماع ، أما الكتاب: فقول الله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) النساء: 101. قال يعلى بن أمية ـ قلت لعمر بن الخطاب: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد أمن الناسُ؟ فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " أخرجه مسلم. وأما السنة : فقد تواترت الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر في أسفاره ، حاجاً ومعتمراً وغازياً. وقال ابن عمر: صحبت رسول الله / حتى قبض ـ يعنى في السفر ـ وكان لا يزيد على ركعتين ، وأبا بكر حتى قبض ، وكان لا يزيد على ركعتين ، وعمر ، وعثمان كذلك. وقال ابن مسعود: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ومع أبي بكرٍ ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق. ووددت أن لي من أربع ركعتين متقبلتين. وقال أنس: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع، وأقمنا بمكة عشراً نقصر الصلاة حتى رجع. وأما الإجماع: أجمع أهل العلم على أن من سافر سفراً تقصر في مثله الصلاة في حج، أو عمرة، أو جهاد، أن له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين.
إنً السفر سبب من أسباب القصر ومن أسباب الفطر المشروع في رمضان، لقوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) البقرة: 184. ولذلك يجب التحري الصحيح في الأدلة الواردة بخصوص القصر في الصلاة حيث يتعبها الفطر والحكم عليهما واحد. وهذه المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد ، ويرجع اجتهاد فقهاء الأمة في هذه المسألة إلى تحقيق المناط . قال الشيخ الشنقيطي: " والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط ، فكل ما كان يطلق عليه اسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه ، لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ، ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفراً ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء وإلى أحد ولم يقصر الصلاة " أضواء البيان.
أما الحديث الذي يعول عليه الشيخ وذهب إليه بعض الفقهاء هو حديث أنس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين " أخرجه مسلم . وهناك حديث عن أبي سعيد الخدري قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخاً قصر الصلاة " أخرجه ابن أبي شيبه.
وللرد على هذا القول وحديث أنس وأبي سعيد بوجه منها:
1ـ حديث أنس مشكوك فيه والشك من شعبة أحد الرواة ، ولا يصح الاحتجاج به للقدح الذي فيه، كما أن هذا الحديث ليس نصاً عند جماهير أهل العلم.
2ـ الحديث لم يصرح بالسفر بل بالخروج ، ولعل المراد به هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ القصر من تلك المسافة ، قال القرطبي: " وهذا لا حجة فيه ، لأنه مشكوك فيه، وعلى تقدير أحدهما، فلعله حدً المسافرة التي بدأ منها القصر ، وكان سفراً طويلاً زائداً على ذلك" تفسير القرطبي. وقال الجوزي: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين، هذا شيء لا يقول به أحدٌ من أرباب المذاهب الظاهرة ، وإن كان هذه الحديث مذهباً لجماعة من السلف ، فقد كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ. قلت: والمعروف بأن الفرسخ = ثلاثة أميال ، والميل = كيلو وتسعمائة وعشرون متراً. ويحمل هذا الحديث على أحد شيئين: أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بنية السفر الطويل ، فلما سار ثلاثة أميال قصر فيم عاد من سفره فحكى أنس ما رأي . والثانية أن يكون منسوخاً. والله أعلم.
3ـ أما حديث أبي سعيد الخدري رواه سعيد بن منصور وفيه أبو هارون العبدي قال الحافظ: في " التقريب " "متروك ومنهم كذبه.
مذهب جمهور أهل العلم أن مسافة القصر تُقدر "بأربعة بُرُد" أي " ثمانية وأربعون ميلاً هاشمية " وهو ما يساوي "ثلاثة وثمانين كيلو متراً" تقريباً، وقد ثبت هذا التقدير بأسانيد صحيحة عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وصحح هذه الآثار الإمام النووي في المجموع 4/328، فعن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم (كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة بُرُد فما فوق ذلك) وسأل عطاء ابن عباس:أأقصر إلى عرفة؟فقال: لا، فقال:إلى منى؟فقال: لا، لكن إلى جدة وعسفان والطائف). و كذلك مذهب الشافعي ومالك وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم . وقال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة بُرُدٍ. قيل له: مسيرة يوم تام؟ قال: لا أربعة برد، ستة عشر فرسخاً، ومسيرة يومين.وهذا أحوط الأقوال في المسألة والله أعلم.
وذهب جماعةٌ من أهل العلم إلى أن مسافة السفر مرجعها إلى العرف ، لأنه لم يرد فيها تحديدٌ عن صاحب الشرع،قال شيخ الإسلام: (كل اسمٍ ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفراً في عرف الناس، فهو السفر الذي علَّق به الشارع الحكم) مجموع الفتاوى.
وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل. وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة. وفي البحر عن أبي حنيفة أن مسافة القصر أربعة وعشرون فرسخاً. وحكى في البحر أيضاً عن زيد بن على والنفس الزكية والداعي والمؤيد بالله وأبي طالب والثوري والكرخي وإحدى الروايات عن أبي حنيفة أن مسافة القصر ثلاثة أيام بسير الإبل والأقدام. وذهب الباقر والصادق وأحمد بن عيسى والقاسم والهادي إلى أن مسافته بريد فصاعداً. وقال أنس وهو مروي عن الأوزاعي: أن مسافته يوم وليلة يعنى قوله في صحيحه: وسمى النبي صلى الله عليه وسلم السفر يوماً وليلة، بعد قوله: باب في كم يقصر الصلاة. وحجج هذه الأقوال مأخوذه بعضها من قصره صلى الله عليه وسلم في أسفاره، وبعضها من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلاَّ وَمَعَهَا حُرْمَـةٌ" وفي رواية لأبي داود: " لا تسافر المرأة بريداً " ولا حجة في جميع ذلك.
نصيحة للشيخ/ صلاح الدين بن إبراهيم إمام المسجد الأقصى ، بعد ما سمعت له بعض أقواله ، إن قولك بأنه لا يجوز أن نقدم قول أحد مهما كان على قول الله تبارك وتعالى وقوله رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذا صحيح ولا غبار فيه ، وأزيد لك بأنه حتى لو كان من أقوال الصحابة إذا خالف الدليل الصحيح ، وعلى طالب العلم التحرر من التقليد والمذهبية ، وأن يجعل الدليل الصحيح هو مذهبه. ولكن للأسف الشديد في بطون كلامك التطاول والاستهزاء بالأئمة والفقهاء وعلماء الحديث وغيرهم مما اجتمعت الأمة على أمانتهم وعلمهم وأنهم أئمة مجتهدين وربانين ، فهل لا يجوز أن ننظر إلى أقوالهم وأن تكون في الاعتبار عند مسائل الخلاف. إن تحاملك على الأئمة الأربعة وابن القيم وابن تيمية وابن حجر وغيرهم ، لا يصح من طالب علم في مكانتك وفي مكانك وفي زمانك ، ولن تصل مهما وصلت إلى ما وصلوا إليه هؤلاء الأعلام، فلا تغتر بقولك ولا بعلمك ، وكأنك أتيت بما لم يأت به الفقهاء المعتبرين ، ويا ليتك تراجع كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لتعرف قدرك وقدر هؤلاء.
ونسأل الله تعالى وإياك أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
إنه ولي ذلك والقادر عليه.