شهدت مصر بعد أيام قليلة من بداية العام الدراسي الجديد للجامعات حراكا طلابيا واسعا سبب صدمة كبرى للقائمين على المنظومة السياسية والأمنية والإعلامية في البلاد بعد أن صوروا للرأي العام طوال الأسابيع التي سبقت الدراسة أن الإجراءات التي تم اتخاذها ستقضي على أي شكل من أشكال الاحتجاج داخل الجامعات, وضخموا كثيرا في إمكانيات الشركة الأمنية الخاصة التي تم التعاقد معها من أجل مواجهة أي مظاهرات تجري داخل الجامعات.
وقد أثيرت الكثير من الأقاويل حول هذه الشركة وتدعى "فالكون" وارتباطها برجل الأعمال القبطي المعروف نجيب ساويرس وبقيادات أمنية سابقة.. وبرر هؤلاء تأجيل الدراسة في الجامعات لما بعد أجازة عيد الأضحى لإنهاء الإجراءات الأمنية المشددة بواسطة الشركة الجديدة على أحسن وجه, وأكدوا أن الوضع سيكون تحت السيطرة تماما ولا رجوع لما حدث العام الماضي!
وكان الاتفاق مع الشركة الأمنية الخاصة نوعا من التحايل على قرار إلغاء الحرس الجامعي واعتراض الطلاب على وجود الشرطة مرة أخرى داخل الجامعة بعد أن خرجت عقب ثورة يناير, وتخفيف العبء عن وزارة الداخلية, وتلافي مواجهات بين الطلاب والشرطة تتورط فيها الأخيرة أمام الكاميرات بارتكاب انتهاكات كما جرى العام الماضي وتم إدانتها بشكل واسع من قبل المنظمات والصحافة العالمية ووضعت السلطات في موقف حرج أمام المجتمع الدولي خصوصا مع تأكيدها الدائم على "انتهاجها مسارا ديمقراطيا"!
السلطات لم تكتف بذلك بل أصدرت عدة قرارات لتخويف الطلاب والأساتذة حيث منحت رئيس الجامعة حق فصل أي عضو من أعضاء هيئة التدريس يشتبه في تورطه في الاحتجاجات كما أعلنت فصل أي طالب يشارك في المظاهرات.
وبعد أول يوم من بداية العام الدراسي فوجئوا بحراك طلابي جامح اقتلع بوابات الشركة الجديدة وفر رجالها كالفئران المذعورة أمام شجاعة الطلاب والطالبات وأصبح موظفوا الشركة في حاجة إلى من يحميهم فتدخلت الشرطة بقنابلها و"خرطوشها" لتقتحم الجامعات وتعتقل المحتجين وتخلي الجامعة من جميع الطلاب خوفا من اتساع الاحتجاجات.
الاحتجاجات لم تقتصر على العاصمة المصرية بل وصلت إلى الاسكندرية والمنصورة واسيوط في تحدٍ واضح للإجراءات الأمنية مع إصرار واضح من الطلاب على مواصلة مطالبهم بالحرية والإفراج عن زملائهم المعتقلين وإعادة مكاسب ثورة يناير التي بدأ النظام الجديد التخلص منها واحدا وراء الآخر بداية من إلغاء انتخاب رئيس الجامعة وعمداء الكليات وصولا بعودة الحرس الجامعي بأشكال مختلفة مرورا بمنع الطلاب من ممارسة السياسة بكافة أشكالها داخل الجامعة.
المفاجئة أذهلت إعلاميي السلطة بشكل كبير حتى أن بعضهم اعترف ضمنيا بعجز السلطة عن مواجهة الحراك الطلابي وطالب بإغلاق جامع الأزهر لمدة عامين والبعض الآخر طالب بوقف الدراسة في كافة الجامعات لمدة عام غير عابئين بمستقبل الطلاب والتعليم في البلاد ليس هذا فحسب بل خرجوا عن شعورهم ووجهوا سبابا وبذاءات على شاشة التليفزيون للطلاب والطالبات في انهيار أخلاقي ومهني واضح.
إن السلطات تصر على الحل الأمني في مختلف القضايا المتعلقة بالاحتجاجات والمطالب السياسية في عودة سريعة لنظام مبارك إلا أن الكارثة هذه المرة أن الإعلام الخاص قبل العام يلعب مع النظام بشكل فوضوي مليء بالدجل والأكاذيب مما سيسبب المزيد من الاحتقان ويرشح الأوضاع للتفجير مع عدم وجود متنفس, خصوصا في الأوساط الطلابية والشبابية التي تعتبر وقود الثورات والتغيير ليس فقط في عالمنا العربي بل في جميع أنحاء العالم وبالتالي سيظلون أصعب رقم في المعادلة التي يسعى الكثيرون لترويجها الآن في مصر بشأن الاستقرار والحفاظ على كيان الدولة وكأن الدول التي تحترم حقوق الإنسان والحريات السياسية للأفراد والأحزاب ليست مستقرة في ظل قانون عادل وواضح يحكم الجميع وكأن الثورة كانت السبب في الانفلات الأمني وليس القائمين على الأجهزة الأمنية والذين ما زالوا قابعين في مناصبهم حتى الآن ولم يسألهم أحد عن سبب هذا الانفلات الذي دام عدة سنوات؟!
لقد جاءت ثورة يناير الذي يعترف بفضلها رئيس الدولة حتى الآن خلافا لكثير من الإعلاميين الموالين له من أجل ترسيخ مبادئ الحرية والمساواة وسيادة القانون وإطلاق حرية إنشاء الأحزاب وممارسة العمل السياسي؛ حتى دستور 2014 الذي تم وضعه بعد عزل الرئيس محمد مرسي يؤكد على هذه المطالب ولكن الواقع السائد يكذب ذلك تماما.
الغريب أننا لا نرى عاقلا من داخل السلطة أو الإعلام الموالي لها يدعو لحوار مع الطلاب أو وضع حل سياسي للأزمة فالجميع يطالب بالقمع و"قطع الرقبة" في حين أن مظاهرات أقل عددا وأقصر مدة انطلقت في عهد الرئيس مرسي صاحبها مطالبات إعلامية يومية بضرورة الحل السياسي وهجوم كاسح على النظام, وهو ما يؤكد أن ما يجري هو تحالف بين أصحاب المصالح من رجال أعمال وعشاق سلطة وأصحاب المناهج الفكرية العلمانية المتطرفة لإقصاء تيار محدد دون أي اعتبار لأسس إنسانية أو قانونية وهو وضع لا يمكن استمراره في ظل بلاد عاشت ثورة حقيقية وتغيرات سياسية حادة تعصف بالمنطقة بأكملها.
ما يجري الآن في مصر خارج نطاق التاريخ فهو يعيد البلاد لعصور الشمولية وتأليه الفرد في وقت كان الإعلام كله تحت سيطرة الحكومة ولم يكن مسموحا إلا بحزب واحد يقوده رئيس البلاد وكل المعارضين إما خونة أو جواسيس ومكانهم أعواد المشانق أو الزنازين أما أن يجري ذلك في عصر الفضائيات والإنترنت وتعدد الأحزاب والثورات وانكسار الحرب الباردة بين القطبين بل وزوال أحد هذه الأقطاب فهو عبث وانتكاسة كبرى سيدفع الجميع ثمنها.
ما يحدث في الجامعة يمتد إلى منظمات المجتمع المدني التي تمثل مع الأحزاب السياسية روح التعبير والرقابة على السلطة القائمة فلقد تصاعد التضييق الأمني على هذه المنظمات خصوصا مع تعديل قانون العقوبات لفرض عقوبة السجن مدى الحياة على أي شخص يطلب أو يتلقى تمويلاً من الخارج بهدف "الإضرار بالمصالح القومية" حيث حذرت المنظمات الأهلية غير الحكومية، والتي تتلقى أغلبها تمويلاً دوليّاً، بأن الصياغة الموسعة هذه قد تستخدم ضدهم, كما أمرت السلطات المنظمات غير الحكومية بضرورة التسجيل بحلول العاشر من نوفمبر المقبل بموجب قانون يعود إلى عهد الرئيس المخلوع مبارك ينظم عمل هذه المنظمات, ويمنح القانون الحكومة والمؤسسات الأمنية سلطات واسعة على قرارات ونشاطات وتمويل هذه المنظمات, أضف إلى هذا حملة إعلامية منظمة استهدفت هذه المنظمات واتهمتها بالعمالة لمجرد حصولها على دعم خارجي رغم حصول الحكومة نفسها على دعم خارجي!
وتزداد هذه الحملة حدة كلما انتقدت المنظمات أداء الحكومة أو الأجهزة الأمنية وطريقة تعاملها مع المواطنين والانتهاكات ضد المعتقلين والاتهامات هنا جاهزة بدعم "الجماعات الإرهابية".
ولم تسلم من هذا التضييق المنظمات العالمية البارزة مثل منظمة هيومان رايتس ووتش ومركز الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر حيث تعرضت الأولى لهجوم كاسح عقب تقرير أدان انتهاكات الأمن خلال فض اعتصام رابعة ووصف ما جرى بأنه جريمة ضد الإنسانية وكانت المنظمة قد أغلقت مكاتبها في القاهرة خوفاً من أن تطالها الحملة على المنظمات الحقوقية بينما قرر مركز كارتر إغلاق مكتبه في القاهرة مؤخرا بعد أن اتهم السلطات بأنها غير جادة في التحول الديمقراطي, مؤكدا أن المجتمع المدني المصري والمنظمات الدولية يواجهان «بيئة مقيدة بشكل متزايد تعيق قدرتها على إجراء متابعة ذات مصداقية للانتخابات».
العجيب أن كل هذا لا يلفت نظر السلطات من أجل مراجعة موقفها والسير في طريق آخر وإنما يجعلها تزداد إيمانا بمبدأ "التآمر على كيان الدولة" وهو الصنم الجديد الذي يراد من الجميع عبادته.
كتبه/علي صلاح