هذا من العلامات التي ظهرت قريباً من عصر النبوًة، وانتشرت بعد ذلك، حتى تباهى الناس في العمران، وزخرفة البيوت، وذلك أن الدنيا بُسطت على المسلمين، وكثُرت الأموال في أيديهم بعد الفتوحات، وامتدً بهم الزمان حتى ركن كثيرٌ منهم إلى الدنيا، ودبً إليهم داءُ الأمم قبلهم، وهو التنافس في جمع الأموال وصرفها في غير ما ينبغي أن تُصرف فيه شرعاً، حتى إن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفقر بُسطت لهم الدنيا، كغيرهم من الناس، وأخذوا في بناء الأبنية ذوات الطًوابق المتعددة، وتنافسوا في ذلك. وكل هذا قد وقع كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فعن أبو هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عندما سأله عن وقت قيام الساعة: " وسَأُخْبِرُكَ عن أشْرَاطِهَا: إذَا ولَدَتِ الأمَةُ رَبَّهَا، وإذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإبِلِ البُهْمُ في البُنْيَانِ، في خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ تَلَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} لقمان: 34 ، ثُمَّ أدْبَرَ فَقالَ: رُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شيئًا، فَقالَ: هذا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ" صحيح البخاري. وفي رواية لمسلم: "وأن ترى الحُفاة العُراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" صحيح مسلم.
وجاء في رواية للإمام أحمد عن ابن عباس، قال: يا رسول الله! ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة؟ قال: "العرب" مسند أحمد. قال الحافظ ابن حجر: " ومعنى التطاول في البنيان أن كلا ممن كان يبني بيتاً يُريد أن يكون ارتفاعه أعلى من ارتفاع الآخر، ويحتمل أن يكون المراد بالمباهاة به في الزينة والزخرفة، أو أعمُ من ذلك، وقد وجد الكثير من ذلك، وهو في ازدياد" فتح الباري(13/88). وقد ظهر هذا جليًاً في هذا العصر، فتطاول الناس في البنيان، وتفاخروا في طولها وعرضها وزخرفتها، بل وصل بهم الأمر إلى أن بنوا ما يشبه ناطحات السحاب والأبراج التى يتعجب لها اللبيب.
21ـ ولادة الأمة لربتها
جاء في حديث جبريل الطويل قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: "وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها" متفق عليه. وفي رواية لمسلم "إذا ولدت الأمة ربًها" صحيح مسلم. وقد اختلف العلماء في معنى هذه العلامة على عدة أقوال، ذكر الحافظ ابن حجر منها أربعة أقوال:
1ـ قال الخطًابي: " معناه اتساع الإسلام، واستيلاء أهله على بلاد الشرك، وسبي ذراريهمن فإذا ملك الرجل الجارية، واستولدها، كان الولد منها بمنزلة ربًها، لأنه ولد سيدها" معالم السنن على مختصر سنن أبي داود.
وذكر النووي أن هذا قول الأكثرين من العلماء. قال ابن حجر: " لكن في كونه المراد نظر، لأن استيلاد الإماء كان موجوداً حين المقالة، والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري وقع أكثره في صدر الإسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة" فتح الباري.
2ـ أن تبيع السادة أمهات أولادهم، ويكثر ذلك، فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها أولادها ولا يشعر بذلك.
3ـ أن تلد الأمة حراً من غير سيًدها بوطء شبهة، أو رقيقاً بنكاح أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعاً صحيحاً، وتدور في الأيدي، حتى يشتريها ابنها أو ابنتها، وهذا من نمط القول الذي قبله.
4ـ أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته، من الإهانة بالسب، والضرب، والاستخدام، فأطلق عليه ربها مجازاً، أو المراد بالرب: المربي حقيقة.
ثم قال ابن حجر: " وهذا أوجه الأوجه عندي، لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون ـ مستغربة، ومحصلة الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عن انعكاس الأمور، بحيث يصير المُربًي مُربياً، والسافل عالياً، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى: أن تصير الحفاة ملوك الأرض" فتح الباري.
5ـ وهنا قولٌ خامسٌ للحافظ ابن كثير وهو: " أن الإماء تكون في آخر الزمان هنً المشار إليهنً بالحشمة، فتكون الأمة تحت الرجل الكبير دون غيرها من الحرائر، ولهذا قرن ذلك بقوله: " وأن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان" النهاية / افتن والملاحم.
22ـ تقارب الزمن
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى.. يتقارب الزمان" رواه البخاري ومسلم.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة" رواه أحمد صحيح على شرط مسلم.
وللعلماء أقوال في المراد بتقارب الزمان منها:
1ـ أن المراد بذلك قلة البركة في الزمان.
قال ابن حجر: "وقد وجد في زماننا هذا, فإننا نجد من سرعة مر الأيام ما لم يكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا" .
2ـ أن المراد بذلك هو ما يكون في زمان المهدي وعيسى عليه السلام من استلذاذ الناس للعيش وتوفر الأمن وغلبة العدل وذلك أن الناس يستقصرون أيام الرخاء وأن طالت, وتطول عليهم مدة الشدة وأن قصرت .
3ـ أن المراد تقارب أحوال أهله في قلة الدين حتى لا يكون منهم من يأمر بمعروف وينهى عن منكر لغلبة الفسق وظهور أهله وذلك عند ترك طلب العلم خاصة والرضى بالجهل, وذلك لأن الناس لا يتساوون في العلم, فدرجات العلم تتفاوت كما قال تعالى: ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) يوسف: 76. وإنما يتساوون إذا كانوا جهالاً.
4ـ أن المراد تقارب أهل الزمان بسبب توفر وسائل الاتصالات والمراكب الأرضية والجوية السريعة التي قربت البعيد .
5ـ أن المراد بذلك هو قصر الزمان وسرعته سرعة حقيقية وذلك في آخر الزمان, وهذا لم يقع إلى الآن ويؤيد ذلك ما جاء أن أيام الدجال تطول حتى يكون اليوم كالسنة وكالشهر وكالجمعة في الطول، فكما أن الأيام تطول فإنها تقصر، وذلك لاختلال نظام العالم وقرب زوال الدنيا.
قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان قصره على ما وقع في حديث "لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر" وعلى هذا فالقصر يحتمل أن يكون حسياً ويحتمل أن يكون معنوياً، أما الحسي فلم يظهر بعد ولعله من الأمور التي تكون قرب قيام الساعة.
وأما المعنوي: فله مدة منذ ظهر يعرف ذلك أهل العلم الديني ومن له فطنة من أهل السبب الدنيوي، فإنهم يجدون أنفسهم لا يقدر أحدهم أن يبلغ من العمل قدر ما كانوا يعملونه قبل ذلك, ويشكون ذلك ولا يدرون العلة فيه، ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان لظهور الأمور المخالفة للشرع من عدة أوجه، وأشد ذلك الأقوات ففيها من الحرام المحض ومن الشبه ما لا يخفى، حتى أن كثيراً من الناس لا يتوقف في شيء ومهما قدر على تحصيل شيء هجم عليه ولا يبالي. والواقع أن البركة في الزمان و في الرزق و في النبت إنما يكون من طريق قوة الإيمان, واتباع الأمر, واجتناب النهي, والشاهد لذلك قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)الأعراف: 96.
وللحديث بقية
التعديل الأخير تم بواسطة محمد فرج الأصفر ; 11-15-2020 الساعة 07:30 PM.