الحمد لله المنفرد بالخلق والاختيار (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ) والصلاة والسلام على المصطفي المختار، سيد الأخيار وعلى آله وصحبه وسلم الطيبين الأطهار، وعلى من تبعهم بإحسان ومعهم ما تعقب الليل والنهار.
أما بعـــــد
فقد اقتضت حكمة الله تعالى تفضيل بعض الخلق على بعض، وبعض الأمكنة على بعض، وبعض الأزمنة على بعض.
1ـ ففي تفضيل بعض الخلق يقول المولى عز وجل: (اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ) الحج:75 . ويقول سبحانه: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) البقرة:253 . وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) آل عمران:33.
وهل هناك أتقى من سيد الأولين والأخرين محمد صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق أجمعين. فعن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا فَخْرَ , وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا فَخْرَ ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا فَخْرَ " رواه مسلم.
2ـ وفي تفضيل بعض الأمكنة على بعض يبين رسولنا صلى الله عليه وسلم أحب الأماكن إلى الله سبحانه وتعالى وإليه فيقول:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} النمل:91.
ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على جمرة العقبة، وقال: "والله إنك لخير أرض الله، وإنك لأحب أرض الله إليّ، ولو لم أُخرَج ما خرجت؛ إنها لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد كان بعدي، ما حلت لي إلا ساعة من نهار ثم هي حرام".
3ـ وفي تفضيل الأزمنة كما شاء الله بحكمته سبحانه وتعالى أن يفضل بعض الأزمنة على بعض: فأفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة، فهو العيد الأسبوعي للمسلمين، وأفضل أيام العام هو يوم عرفة، وصيامه يكفر سنة ماضية وأخرة قابلة. وأفضل الأيام هي الأيام العشر الأول من ذي الحجة لورود أفضلية العمل الصالح فيها، وأحبه إلى الله تعالى. وأفضل الشهور شهر رمضان الكريم حيث أنزل الله فيه القرآن العظيم. وأعظم ليالي السنة هي الليالي العشر الأواخر من شهر رمضان، وأفضلها ليلة القدر، وهي الليلة المباركة.
ليلة القـــدر:
وما أدراك ما ليلة القدر؟ ليلة الشرف والعظمة والعفو والمغفرة والعتق من النيران
اختلف العلماء في تحديد ليلة القدر على أقوال كثيرة ، حتى وصلت الأقوال فيها إلى أكثر من أربعين قولاً كما في " فتح الباري " ، وأقرب الأقوال للصواب أنها في وتر العشر الأخير من رمضان
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنزل الله القرأن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قام ليلة القدر ، إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري
وعن عائشة قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تحروا ليلة القدر في الوتر ، من العشر الأواخر من رمضان) رواه البخاري
والحديث : بوَّب عليه البخاري بقوله : " باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : قوله أي : الإمام البخاري - : " باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر " : في هذه الترجمة إشارة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان ، ثم في العشر الأخير منه ، ثم في أوتاره ، لا في ليلة منه بعينها ، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها
وعن بن عمر قال:أن أناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر ، وأن أناسا أروا أنها في العشر الأواخر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( التمسوها في السبع الأواخر ) رواه البخاري.
وعن الصنابحي أنه قال له :( متى هاجرت ؟ قال : خرجنا من اليمن مهاجرين ، فقدمنا الجحفة ، فأقبل راكب فقلت له : الخبر؟ فقال : دفنا النبي صلى الله عليه وسلم منذ خمس ، قلت : هل سمعت في ليلة القدر شيئا ؟ قال : نعم ، أخبرني بلال مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سمع في السبع في العشر الأواخر) رواه البخاري .
وسئل أبي سعيد الخدري هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر ؟ قال : نعم ، اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان ، قال : فخرجنا صبيحة عشرين ، قال : فخطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عشرين فقال : ( إني أريت ليلة القدر ، وإني نسيتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر في وتر ، فإني رأيت أني أسجد في ماء وطين ، ومن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع ) . فرجع الناس إلى المسجد ، وما نرى في السماء قزعة ، قال : فجاءت سحابة فمطرت ، وأقيمت الصلاة ، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطين والماء ، حتى رأيت الطين في أرنبته وجبهته) رواه البخاري
الحكمة من إخفاء ليلة القدر:
قال أهل العلم: الحكمة من إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها.
وقال أخرون: والحكمة من إخفائها هي تنشيط المسلم لبذل الجهد في العبادة والدعاء والذكر في العشر الأخير كلها ، وهي الحكمة ذاتها في عدم تحديد ساعة الإجابة يوم الجمعة.
علامات ليلة القدر:
وعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليلة القدر ليلة طلقة لا حارة ولا باردة، تُصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة" رواه ابن خزيمة والطيالسي
وعن واثلة بن الأسقع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليلة القدر ليلة بلجة لا حارة ولاباردة لا يُرمى فيها بنجم" رواه الطبراني.
وعن أُبي بن كعبك " أن النبي صلى الله عليهوسلم أخبر أن من علاماتها أن الشمس تطلع صبيحتها ولا شُعاع لها" رواه مسلم
ما يسن في العشر الأواخر من رمضان:
ومن الأعمال المشروعة في العشر الأواخر؛ إحياء هذه العشر بالانقطاع لعبادة الله تعالى؛ والابتعاد عن فضول الكلام وفضول النظر وما لا ينفع المسلم في آخرته .
إنَّ هذه العشر الأواخر أيامٌ مباركة؛ فالواجب على المسلم أن يغتنمها وأن يتعبد الله فيها, وأنْ لا يترك سبيلاً يستطيع من خلاله أن يصل إلى مرضاة اللهﻷ إلا اجتهد فيه, فعن عائشة قالت: ( كان النبي إذا دخل العشر الأواخر شد مئزره, وأحيا ليله وأيقظ أهله ) رواه البخاري ومسلم
وعليه يجب الاجتهاد والاعتكاف وفي جميع العبادات في العشر الأواخر من رمضان ونغتنم الفرصة لنلتمس ليلة القدر ونكثر من قراءة القرآن الكريم والدعاء والصدقات ونتفرغ لهذا ونتعرض للنفحات في تلك الليالي المباركات. ونكثر من قول ( اللهم إنك عفو تحب العفو فأعف عنا) .
ونسأل الله لنا ولكم القبول والعفو والرحمه من الرب الغفور