الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فإن وعظ الناس بكلام الله تعالى علام الغيوب هو أعظم الوعظ؛ لأن القرآن الكريم يتمكن في قلب المؤمن، ويؤثر في قلبه أكبر تأثير
إن أثره في القلب لا يكاد يذهب، بعكس المؤثرات الأخرى، فلربما تأثر بها الإنسان تأثراً عرضياً أو وقتياً
فما يميز كلام الله تعالى هو أنه إن دخل قلب المؤمن بصدق وإخلاص فإنه لا يخرج منه حتى يموت.
إن كلام الله تعالى له تأثير عجيب على الجمادات التي هي فاقدة جميع حواس الإدراك، من السمع والبصر والعقل
فكيف لا يكون له تأثير على إنسان من الله عليه بجميع مدارك الإدراك؛
قال الله تعالى : {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
سورة الحشر(21)
" فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله - عز وجل -
فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه"1.
فالقرآن يرقق القلوب، بل يرقق الأحجار؛ قال الله تعالى : {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ} سورة البقرة(74).
وقد جاءت روايات كثيرة، وقصص مختلفة تبين كيف يؤثر القرآن على القلوب؛ فمن ذلك ما جاء في البخاري
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال لي النبي : (اقرأ علي). قلت : يا رسول الله آقرأ عليك وعليك أنزل ؟
قال : (نعم) فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا}
سورة النساء(41).
قال : (حسبك الآن). فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
بل إنَّ القرآن يؤثر على القلوب ولو كانت تلك القلوب كافرة
فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : اجتمعت قريش يوما فأتاه عتبة بن ربيعة بن عبد شمس،
فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله فقال له رسول الله أفرغت ؟
قال: نعم، فقال رسول الله: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سورة فصلت(1)(2)
حتى بلغ : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} سورة فصلت(13)
فقال له عتبة: حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟
قال : لا، فرجع عتبة إلى قريش، فقالوا : ما وراءك ؟
فقال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا قد كلمته
قالوا: فهل أجابك؟ قال : نعم لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود
قالوا: ويلك يكلمك رجل بالعربية ولا تدري ما قال! قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال، غير ذكر الصاعقة2
وقال عمر بن ميمون حرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة فمررنا بجدول فلم يستطيع الشيخ أن يتخطاه
فاضطجعت له، فمر على ظهري
ثم قمت فأخذت بيده، ثم دفعنا إلى منزل الحسن، فطرقت الباب فخرجت إلينا جارية سداسية، فقالت: من هذا؟
فقلت: هذا ميمون بن مهران أراد لقاء الحسن، فقالت: كاتب عمر بن عبد العزيز؟ قلت لها: نعم
قالت: يا شقي ما بقاؤك إلى هذا الزمان السوء؟
قال: فبكى الشيخ، فسمع الحسن بكاءه فخرج إليه فاعتنقا ثم دخلا
فقال ميمون : يا أبا سعيد، إني قد أنست من قلبي غلظة فاستكن لي منه
فقرأ الحسن : {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}
سورة الشعراء (205)(206)(207).
فسقط الشيخ مغشياً عليه، فرأيته يفحص برجليه كما تفحص الشاة إذا ذبحت، فأقام طويلا، ثم جاءت الجارية
فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا
فأخذت بيد أبي فخرجت، فقلت : يا أبت أهذا هو الحسن ؟ قال : نعم، قلت : قد كنت أحسب في نفسي أنه أكبر من هذا
قال: فوكز في صدري وكزة
ثم قال: يا بني، لقد قرأ علينا آية، لو فهمتها بقلبك لألفيت لها فيه – أي في قلبك - كلوماً"3 أي جروحاً وتأثيراً.
فتأمل كيف تأثر من الآيات، وبعضنا اليوم ربما يقرأ القرآن من فاتحته على خاتمته لا يخشع له قلب، ولا تذرف له عين !
- نسأل الله العفو والعافية -
وذكر صاحب كتاب التوابين في سبب توبة الفضيل، فيذكر بسنده عن علي بن خشرم
قال : أخبرني رجل من جيران الفضيل بن عياض
قال: كان الفضيل يقطع الطريق وحده فخرج ذات ليلة ليقطع الطريق فإذا هو بقافلة قد انتهت إليه ليلاً
فقال بعضهم لبعض : اعدلوا بنا إلى هذه القرية فإن أمامنا رجلا يقطع الطريق يقال له الفضيل
قال: فسمع الفضيل فأرعد فقال : يا قوم أنا الفضيل جوزوا والله لأجتهدنّ أن لا أعصي الله أبدا فرجع عما كان عليه.
وروي من طريق أخرى أنه أضافهم تلك الليلة
وقال : أنتم آمنون من الفضيل، وخرج يرتاد لهم علفا، ثم رجع
فسمع قارئا يقرأ : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} سورة الحديد(16).
قال : بلى والله قد آن، فكان هذا مبتدأ توبته4. فتأمل كيف أثرت فيه آية واحدة فكانت سبباً في توبته!
وهذا التأثر إنما يكون من المؤمن قوي الإيمان، وكلما كان الإيمان قوياً كلما كان الإنسان أقرب إلى ربه وأخشع
كما قال -تبارك وتعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
سورة الأنفال(2)
وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ}
سورة الحج:(35،)(34.)
لقد عاتب الله جل وعلا من لا يخشع قلبه من المؤمنين عتاباً لطيفاً
فقال تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ
وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}
سورة الحديد(16)
والسبب -والعلم عند الله- في قلة انتفاع بعض الناس بمواعظ القرآن : الغفلة، وشرود القلب عند سماع أو تلاوة آيات الله
قال تعالى مبيناً أنه لن ينتفع بالمواعظ إلا من أحضر قبله وأصغى جيداً لما يسمع من آيات الله
ووعده ووعيده : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }
سورة ق(37).
وإن مما يحزن القلب أن بعض الوعاظ -هدانا الله وإياهم- أهملوا الوعظ بالقرآن، ولجئوا إلى الوعظ بالقصائد والأشعار
وربما بالقصص الموضوعة والمكذوبة، بل لا أبالغ إن قلت أن البعض من الوعاظ ربما يعظ الناس ساعة كاملة
لا يذكر في موعظته آية واحدة من كتاب الله.. وكأنه يخطب خطبة سياسية.
وهذا لا شك أنَّه أسلوب غير مرضي، بل هو أسلوب مخالف لسنة النبي وهديه في خطبه ووعظه..
فالذي ينبغي على الخطباء والوعاظ وعظ الناس بالقرآن، والإكثار من ذلك، وأن يضيفوا إلى ذلك الأحاديث الصحيحة
ولا مانع من ذكر القصص والأشعار المصاحبة والمؤيدة لموضوع الموعظة…
والله نسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا كل ما يسخطه ويأباه..
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تنفعنا بالقرآن، وأن تجعله حجة لنا لا علينا
وقائداً إلى الجنة، وحجاباً لنا من النار. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
1 تفسير القرآن العظيم(4/) لابن كثير.
2 أخرجه الحاكم في المستدرك
وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ".
وقال الذهبي قي تعليقه على التلخيص : " صحيح "
3 البداية والنهاية(9/315).
4 التوابين، صـ(208)
توقيع عابرة سبيل
التعديل الأخير تم بواسطة عابرة سبيل ; 08-19-2021 الساعة 03:03 AM.