وكانت عاقبة هذا النبإ اليقين، هي إعلان الملكة بلقيس إيمانها وإسلامها، مع كل ما يستتبع ذلك من تحول تاريخي في ملكها ومملكتها: "قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” ([2])
كما قص علينا القرآن الكريم استفادة ولد آدم من الغراب، ولومه لنفسه لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه الغراب: "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ () فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ” ([3])
فإذا كان هذا مع الهدهد والغراب، فكيف بنا مع الإنسان، بكل ما وهبه الله من قدرات عقلية وفكرية، ومن قدرة على تطوير التجارب والخبرات، وبما هو مبثوث فيه وفي تاريخه من تراث الأنبياء وآثارهم، ومن حكمة الحكماء وآرائهم؟
وفي السيرة النبوية، لما اجتمعت الأحزاب ـ في غزوة الأحزاب الشهيرة بغزوة الخندق ـ على غزو المسلمين واستئصالهم، جاءت فكرة حفر خندق حول المدينة، لمنع الجيوش الغازية من دخولها. وهذا أسلوب كان يستعمله الفرس. قال الحافظ ابن حجر "وكان الذي أشار بذلك سلمان ـ فيما ذكر أصحاب المغازي، أو معشرـ قال سلمان للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة. وعمل فيه بنفسه…” ([4])
ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعونا من فارس، ودعونا من أساليب المجوس المشركين.
وحينما تشاور المسلمون ـ ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في طريقة يعلنون بها دخول وقت الصلاة ودعوة المصلين إلى المسجد، كان منهم من اقترح اتخاذ بوق مثلما عند اليهود، ومنهم من اقترح استعمال ناقوس مثما عند النصارى. ([5]) ولم يستنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ولا زجرهم عن ذلك، بل استمر التشاور حتى اهتدوا إلى ماهو أفضل وأليق، وهو الآذان المعروف.
وحين استشار عليه السلام الصحابة فيما يفعله بعد أن بدأ القيام أثناء الخطبة يشق عليه، كان ممن اقترحوا عليه فكرة المنبر تميم الداري، الذي كان ـ رضي الله عنه ـ قد شاهد استعمال المنابر في الشام. فعن أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وهو مستند إلى جذع، فقال: إن القيام قد شق علي. فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فرأوا أن يتخذه” ([6])والاقتباس من الشام إنما يعني يومئذ الاقتباس من الروم ومن النصارى.
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب إلى ملوك زمانه (قيصر وكسرى والنجاشي) قيل له: "إنهم لا يقبلون كتابا إلا بخاتم، فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حلقته فضة، ونقش فيه (محمد رسول الله).” ([7])
وعند مسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به.” ([8])
وفي صحيح مسلم أيضا، من نماذج هذا التوجه الاستيعابي المتفتح، ما رواه "عن عبد الملك بن شعيب بن الليث، حدثني عبد الله بن وهب، أخبرني الليث بن سعد، حدثني موسى بن علي عن أبيه قال: قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك، فإن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف. وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك. ([9])
وكلها صفات مسوقة مساق المدح والثناء والدعوة إلى الاقتداء. وأقربها إلى موضوعنا، الصفة الخامسة الأخيرة.
ومن لطائف السنة ونفائسها في هذا الباب ذلك الحديث الطويل المعروف بحديث أم زرع. وهو حديث قال عنه القاضي عياض "لا خلاف في صحته وأن الأئمة قد قبلوه، وخرجه في الصحاح البخاري ومسلم فمن بعدهما ([10]). وخلاصته أن إحدى عشرة امرأة من نساء الجاهلية جمعهن مجلس لهن، فاتفقن على أن تتحدث كل منهن عن خصال زوجها وماله وما عليه، واتفقن على أن يكون حديثهن صدقا لا كذب فيه، ثم تحدثن بذلك كلُّهن، وكانت أُخراهن هي "أم زرع” ذات التجربة الشيقة مع زوجها السخي الكريم "أبي زرع”، وهي التي سمي الحديث باسمها.
وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: "يا عائشة كنت لك كأبي زرع لأم زرع. فقالت عائشة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بل أنت خير لي من أبي زرع…” ([11])
وقد أفرد القاضي عياض هذا الحديث بشرح خاص سماه (بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد).
قال القاضي عياض رحمه الله عن هذا الحديث "وفيه من الفقه جواز الحديث عن الأمم الخالية، والأجيال البائدة، والقرون الماضية، وضرب الأمثال بهم، لأن في سِيَرهم اعتباراً للمعتبر، واستبصاراً للمستبصر، واستخراجَ الفائدة للباحث المستكثر…” ([12])
وقد نقل القاضي عياض قول الفقيه المالكي القاضي المهلب بن أبي صفرة عن هذا الحديث: "فيه من الفقه جواز التأسي بأهل الإحسان من كل أمة”، ثم علق عليه قائلاً "وأما قوله بجواز التأسي بأهل الإحسان من كل أمة فصحيح، ما لم تصادمه الشريعة.” ([13])
فهذا هو النهج الإسلامي الصحيح، جواز التأسي بكل من أحسن في إحسانه، وكل من أجاد في إجادته، وكل من أصاب في إصابته، والميزان هو: ما يوافق الإسلام ويخدمه، وما ينفع المسلمين ويخدم مصالحهم.
وعلى هذا الأساس سارالصحابة والخلفاء الراشدون، فاقتبسوا واستفادوا، بلا تحرج ولا تنطع، والأمثلة كثيرة جداً ومعروفة جداً، فلا أطيل.
— — — — — — –
هوامش ([1]) سورة النمل، 22 ([2]) سورة النمل، 44 ([3]) سورة المائدة، 30 – 31 ([4]) فتح الباري 8|148 ([5]) البخاري في الآذان، والترمذي في أبواب الصلاة (وقد سبق الحديث بنصه وتخريجه) ([6]) فتح الباري 3/|60 ([7]) هذه رواية مسلم في كتاب الزينة، وهو في البخاري، كتاب العلم وكتاب اللباس وغيرهما. ([8]) صحيح مسلم، كتاب الفضائل. ([9]) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة. ([10]) بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، ص 18. ([11]) بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، ، ص18. ([12]) المرجع نفسه، ص 36. ([13]) المرجع نفسه، ص 171.