نلتقط بعض المعاني وهي غيض من قصور عقولنا، لكن الفيض في علم ربنا جل وعلا.
ومن هذه المعاني التي نلحظها من آثار الحج في إصلاح الأسرة ما يلي:
أولاً: شاءت إرادة الله تعالى أن يكون الحج إلى مكة وأرض الله الحرام التي شهدت أرقى مستويات اليقين في الله تعالى لأسرة مسلمة هي أسرة سيدنا إبراهيم وزوجته هاجر وولده إسماعيل حيث يؤمر بترك زوجته الحبيبة، وابنه وفلذة كبده في أرض لا زرع فيها ولا ضرع، ولا سقاء ولا غذاء، وتناديه بصوتها المشفق على وليدها والرجل يدير لها ظهره ليس غضبًا من ترداد سؤالها بل خوفًا من تردده في تنفيذ أمر ربه والمرأة تحسن الظن بزوجها ولا تتهمه بعدم تحمل المسئولية، أو الغلظة على أهله وزوجه كما قد تفعل نساء اليوم وهي بين النعيم والرغد، وتستدرك المرأة التي تحسن الظن بزوجها قائلة، آلله أمرك بهذا فيقول: نعم – وهل يفعل نبي مرسل شيئا من ذلك إلا بأمره سبحانه – فتقول بلسان اليقين : إذن لن يضيعنا.
ولم تجلس تنتظر الفرج الموعود ، والكنز المفقود، بل سعت بين الصفا والمروة لتضرب المثل في التوكل لا التواكل، في السعي والعمل مع اليقين والأمل، وجاء إجابة السماء مع السعي لا الكسل، في ماء عذب زلال غذاء وسقاء و دواء، وكان هذا ثمرة حسن ظن المرأة بزوجها، ويقينها بربها، وفهمهما الصائب أن الأمل لا يغني عن العمل.
ثانياً: الأسرة يجب أن تكون سببًا في مزيدٍ من السعي لله، والتجرد لله، والبذل والعطاء، ولا يجوز أن يتحول الإنسان من السخاء إلى الشح، ومن البسط إلى القبض من أجل مستقبل زوجه وولده.
وإذا كان إبراهيم أبو الأنبياء قد رزق ولده إسماعيل على كبر، ثم يؤمر بذبحه بعد أن بلغ معه السعي، وصار يرجو فيئه، ويستمتع بالنظر إلى شبابه الواعد، ولكن الأمر من رب السماء، في رؤيا مناميه، وعرض على ولده الأمر ليرسى أمر التشاور في الأسرة، فالأب وإن كان مكلفًا بذبح ولده حتى لو رفض فيمكن أن يمسكه بقوة ويذبحه بأية طريقة متذرعًا أن هذا أمر الله تعالى، ولكن سيدنا إبراهيم يرى أن الشورى هي أفضل طريق لتنفيذ الأمر، حتى يؤجر ولده معه، فقال بلسان المستشير: "يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين" ، هذا هو الرد الذي يدل على عمق التربية الإيمانية لولده.
وقد أثبت سيدنا إبراهيم أنه أول من أحسن إلى والده في الحوار في قضية عبادة الأصنام وأحسن الآباء في إقناع الأبناء بأمر رب السماء، ورغم قسوة الأمر على سيدنا إبراهيم نفسه إلا أن حبه لله أشد، وخشيته منه أعظم، فجعلته لا يتردد أن يبذل ولده لإرضاء ربه، ويقدمه مذبوحًا ابتغاء مثوبته، ولذا جاءت الآيات: "فلما أسلما" والإسلام كان قد حدث من قبل، لكن هذا أعظم دليل على إسلام الوجه لله تعالى لأن أمر على خلاف الهوى والرغبة.
ونحن الآن نشكو من سطره الآباء في إكراه الأبناء والنبات على غير ما يرضي الله، ومن عنف بعض الآباء مع الأبناء في حملهم على ما يرضي الله، والنتيجة عقوق من الأبناء دفعهم إليه الآباء المتسلطون بالحق والباطل، ولهم في سيدنا إبراهيم أعظم أسوة كما قال ربنا " لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد"
ونعود من سيرة أبي الأنبياء إلى خير الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الذي بين لنا أن الحج لا يلغي تحمل الزوج للمسئولية في الإنفاق، فمن أراد الحج فيجب أن يترك لأولاده زادًا يكفيهم حتى يعود، ولا يتركهم يتسولون بزعم أن عائلهم ذهب إلى الحج، وذلك للحديث النبوي "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول".
ومنه أيضا أن الفقه الإسلامي يجمع على أن من خشي على نفسه الوقوع في الزنا، بسبب احتدام الفتن، وثوران الشهوات وخاصة للذين يسافرون إلى الخارج للعمل والدراسة، أو التجارة، فلا يصح أن يحجوا قبل أن يتزوجوا إن كان مالهم لا يسع الحج والزواج، فيقدم بناء الأسرة وإعفاف الرجال والنساء على أداء الحج الذي يجب على التراخي عند كثير من الفقهاء، وإن كنا نرجح وجوبه على الفور لمن ليست عنده موانع شرعية مثل حالتنا هذه تقديم الزواج على الحج لمن خشي العنت، أو من لديه مريض يرعاه من أب أو ابن لا يستطيع تركه وحده إلى أخره.
روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه جميعًا فأصاب منهن قبل أن يحج، في هذا مراعاة للرغبة الفطرية عن الرجل وزوجته أو زوجاته، أنه كلما هم بسفر أو عاد منه ألا يدع النفس محرقة في الرغبة، بعيدة عن نيل ما يرضيها من الحلال الطيب، وليس كما يفعل بعض العوام منذ يقدم أوراقه للحج يعتبر انه في حالة إحرام إلى أن يهل هلال شهر المحرم، هذا كله من الجهالة بحاجة النفس ويسر الإسلام، ومراعاته للحاجات الفطرية، بل جاء الحديث صريحًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى أحدكم نهمته في الحج فليعجل إلى أهله".
نلمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رقة بالغة مع نسائه وعناية نسائه به في حياته الخاصة، وهو ما يجب أن نتأسى به في حياتنا الزوجية، ففي صحيح مسلم أن السيدة عائشة قالـت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم بأطيب ما أقدر عليه، فهي هنا تطيبه قبل أن يحرم لكن يتجلى أعظم الحب منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قولها: بأطيب ما أقدر عليه يعني هي تبالغ في تطبيعه بإكرامه، وهذا من جانبها، ومن جانب النبي صلى الله عليه وسلم نجد اللطف والرقة في الحديث إليها والعطف عليها والتخفيف عنها عندما دخل عليها في الحج فوجدها تبكي فلم يعنفها كما يفعل أزواج اليوم بل أدرك دون سؤالها أنها تبكي من نزول حيضتها وما سيؤدي إليه ذلك من حرمانها من أداء بعض المناسك، فقال لها: أو قد نفست قالت : نعم، قال: إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات حواء فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. هذا يدل على أن الني صلى الله عليه وسلم كان يحس بمشاعر زوجته ويعلم أحوالها، وأن بكاءها من نزول حيضتها دون أن تخبره، ويبين لها أن الله تعالى الذي جئت من أجله هو الذي كتب ذلك عليك وعلى بنات حواء، فلا عليك من هذا البكاء وذلك العناء، وهذا يخالف ما درج عليه بعض الأزواج من إهمال زوجاتهن وعدم الاكتراث بحزنهن أو بكائهن وهو ما يضاعف الهوة بين الرجل وزوجته، ويوسع الفجوة بينهما، لكن لا بد لنا من الإفادة من هذه الصور الحية في حياة النبي صلى الله عليه سلم وزوجاته حتى في الشعيرة الكبرى التي يجب أن يتفرغ كل لمناسكة تماما، لكنه الإسلام دين الفطرة وعلاج الواقع بأحسن الوسائل.
الإمساك عن الرفث وهو الحديث في أمور الجماع وحرمة جماع الرجل زوجته هذا يجعل ظلال التعامل بين الزوجين في حد الاعتدال فالرجل مهما كان محبًا لزوجته ومهما كانت الزوجة محبة لزوجها فإن الإحرام يجعل حب الله تعالى أعلى وأجل، والحرص على مرضاة الله تعالى أولى وأهم، وكم من أزواج أو زوجات أرضي بعضهم بعضًا نسخط الله تعالى في قطيعة الأرحام، أو إمساك المال من المحتاجين، أو إرضاء غرور الزوجة وإشباع نهمها على حساب حاجة الأب والأم والأخ والأخت فأسخط الله كلاً على الآخر، وتحولت الحياة إلى جحيم لا يطاق كما نقرأ عن بيوت تضطرم نارًا لأن حب الله تعالى توارى وراء حب الزوج لزوجته أو حب الزوجة لزوجها، ولا يصح الإيمان إلا بإعلاء حب الله على كل شيء، فاستحلال الفروج بكلمة الله، وبالإحرام تحرم، وبانقضاء المناسك تحل وتطيب، وهو أمر مشابه للصيام فكلمة الله أكبر في الفجر تحرم الحلال، وهي الكلمة نفسها تعود باطل إلى نقائه وصفائه، فهذا أعظم تهذيب عملي إيمان للأخلاق، وحمل على الفقه والطهارة، وأن تكون العشرة الزوجية جزءا من العبادة لا العادة، ولا ينسى الزوج أن في بضعة صدقة، وهي مسألة جعلت الأصحاب يستغربون أن يكون كرم الله تعالى على عبده أن يأتي شهوته ويكون له أجر، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك معيارا عقليا يجب الارتقاء إليه: أرأيتم لو وضعها في حرام يكون عليه وزر" قالوا: نعم قال كذلك: إذا وضعها في الحلال يكون له أجر.
هناك من سخروا من قضية المحرم للمرأة في السفر، وهؤلاء لم يتفهموا تكريم الإسلام للمرأة في هذا فهي بطبيعتها ضعيفة والمحرم ليس دوره الرقابة والمتابعة بل الحماية والدعاية وتوفير المأكل والشرب، ومنع التصاق أحد بها في الطواف والسعي والرمي وغيره، يذبح عنها، ويحجز لها المركب، ويسهل لها السبل، وكأنها مثل هؤلاء الأشراف الذين لا يخرجون للحج إلا ومعهم حراسهم وخدمهم فهل يسمى أحد ذلك نوعا من الحجر على هؤلاء الكبار الذين لا يسافرون إلا في صحبة الآخرين، إن هؤلاء ينظرون نظرة الشاعر:
عين الرضا عن كل عيب كليلة * ولكن عين السخط تبدي المساويا
والحق أنه تكريم للمرأة أيما تكريم، وإن أجاز بعض الفقهاء خروج المرأة في صحبة آمنة.
إذا كان الرجل يلبس إزارا ورداء فهذا لا يصلح للمرأة لأن جميع من أوتى ولو مسحة من عقل يدرك أن المرأة إذا أظهرت ما أظهر الرجل تكون فتن لها وللجميع جميعا، ومع أن الحجاج يكونون في حالة تعبد وتلبية وذكر ودعاء إلا أن المرأة لا تلبس إزارا ورداء وهذا يعني أن دعوات التحلل والسفور والتبرج****، ومن أسف أن كتابا ظهر حديثا لمحمد سعيد العشماوي بعنوان "حقيقة الحجاب" يرى فيه أن المرأة لا يجب عليها أن تستر شعرها ولا ساقيها، ولا فتحة صدرها في أي وقت، وأن النصوص لم تحرم ذلك، وساق شبهات كلها مردودة، وأقوالاً كلها مكذوبة وهو نوع من إنكار ضوء الشمس في رابعة النهار.
هناك نهي عن مزاحمة الرجال للنساء، أو النساء للرجال، حتى دعت السيدة عائشة على امرأة جاءت مفتخرة أنها طافت بالبيت، وقبلت الحجر الأسود مرارا والسيدة عائشة تعلم أن هذا لا يتم إلا بمزاحمة ومخالطة فقالت لها: لا آجرك الله تعالى، هذا يدلنا أن على الأسر المسلمة أن تحافظ على الحدود الشرعية في التعامل مع الآخرين، فلا يجوز الاختلاط وهو عندي معناه الاحتكاك لا التعامل البريء الجاد، لكن هذا الاحتكاك في الحياة العامة والخاصة مع غير محارمها، لا بد أن يبقى سمت الإسلام وصبغته ظاهرا في حياتنا الأسرية، ولا أحب أن تتحول حياة بعض الأزواج إلى الديوثية حتى يأذن لأهله في مخالطة الآخرين دون حرج فهذا عواقبه في الدنيا والآخرة وخيمة.
يلاحظ أيضا شفقة النبي – صلى الله عليه وسلم – على زوجته المريضة المليئة السيد سودة حيث استأذنت أن ترمي جمرة العقبة الكبرى قبل فجر يوم النحر فأذن لها النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وكان المرض وامتلاء الجسم وصعوبة الحركة وسط ثلاثين ألفا سببا في هذا التخفيف عن زوجته ونساء الأمة وليعلم الأزواج أن الرفق بزوجاتهن واجب خاصة في حالة مرضهن أو محيضهن، ولقد تمنت السيدة عائشة التي أحبت أن تكون دائما في صحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تكون قد فعلت مثل سودة عندما رأت زحام الناس عند الجمرات، ترى ألسنا الآن أكثر حاجة في زحام الملايين الثلاثة إلى الشفقة بالنساء والإذن لهن في الرمى قبل الفجر يوم النحر، وقبل الزوال في أيام التشريق، أرى ذلك أدعى وأهم في واقعتا المعاصر.
من ظلال الحج التي ترخي سدولها على الأسرة المسلمة حرص الأب والأم على إيمان أولادهم وصلتهم بربهم فهذا سيدنا إبراهيم يودع أولاده عند بيت الله الحرام لسبب رئيس "ربنا ليقيموا الصلاة" وهذا مسلم يروي أن امرأة لما سمعت عن فضل الحج رفعت صبيها إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر، فهنا حرص من الأم على صبيها أن يشهد المناسك، وقد حباها النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن الأجر سوف يكون له ولها وهذا نصيب جميع الآباء الذين يحرصون على إيمان أولادهم قبل بناء البيوت، وتكثير الأرصدة، وتوسيع العقارات دون أن يتركوا فيها أثرا إيمانيا يسعدون به في الدنيا والآخرة.
تأتي حجة الوداع لتجعل الحج منارة كبرى لإصلاح الأسرة، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه الحجة الأخيرة يهتم بالأسرة ويحث بإلحاح على الوصاية بالنساء: اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان" أي أسيرات "فكان يمكن يعد بناء الدولة واتساع أرجائها، كان يمكن أن تذوب قضية الأسرة في مشكلات الدولة الكبرى، لكن النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يلفت أنظارنا إلى أن بناء الأسرة حسن رعاية المرأة، والوصاية بها، والحفاظ عليها، هو من أساسيات بناء الدولة الإسلامية، وهو سمت فريد يجمع بين حقائق الإيمان، وأحكام الفقه ومكارم الأخلاق.
هذا بعض خواطر حول الحج والأسرة حتى تكون عباداتنا ذات أثر في أعماق حياتنا، سائلا الله تعالى التوفيق والسداد