السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن المتَتبِّع للشأن التعليمي يلاحظ جليًّا تلك الأزمة التي باتت تُرخي بظلالها على المؤسسات التعليمية، وتعكِّر صفوَ الأجواء بها، إن لم نقل: إنها تعثر سيرها الطبيعي.
فقد تفاقمت ظاهرة العنف المدرسي بين قطبَي العملية التعليمية: الأستاذ والتلميذ، واتسعت هُوَّةُ الشِّقاق بينهما، فأضحى المدرس غريمًا، والتلميذ مغرمًا.
والأكيد أن هناك عوامل عدة تضافرت لتكريس هذا الواقع المؤلم، ترتبط بالمدرس أو التلميذ أو الإدارة، أو المنظومة التعليمية بشكل عام.
وبعيدًا عن التنظير الذي يجعل المرء يَهْرِفُ بما لا يعرف، ويتحدث بما لا يعلم، ويقترح حلولاً قد تبدو للخيال أدنى منها للواقع، أحببت أن أطرح في عجالة زُبدةَ تجربة شخصية من صميم الواقع؛ عساها تسلط بعض الضوء وتضع حلولاً ناجعة للمشكلة.
إن أول لَبنة في تأسيس عَلاقة جيدة بين قطبَي العملية التعليمية ينبغي أن يشيد دعامَتَها المدرسُ أولاً، وإليه أهمسُ:
أخي المدرسَ، التلميذ كائن بشري له توجُّهاته الفكرية والعاطفية، وموروثاته البيئية التي شكلت ذاك الكائن الذي جمَعتْك الأقدار به؛ لذا فأول ما يجب عليك تجاهه هو: احترامُه، واحترام ظروفه، ومحاولة احتوائه، واحترامُك له يبدأ باحترامك لذاتك أخلاقيًّا ومهنيًّا وإنسانيًّا.
كن بالنسبة له المدرسَ الكفءَ الذي يغذِّي عقله بالمعارف التي يجهلها، ويبدِّدُ الإشكالات الفكرية التي تعرض له، ولا تكن جاهلاً بالمادة التي تُلقِّنها إياه، فيفقد التلميذ احترامَه لك، وتنعدم ثقته بك.
كن له القدوة التربوية التي صار يفتقدها بمحيطه الأُسري أو المجتمعي، دعْ سلوكك وهندامك يعبران عن رُقيِّك الروحي والفكري، فأنت مدرسٌ، منكَ يتعلم التلميذ أبجديات الحياة:
ابدَأْ بنفسِـك فانْهَها عن غيِّها فإذا انتهتْ عنه فأنت حكيمُ
فهناك يُسمَع ما تقولُ ويُقتدَى بالقـول منك ويَنفع التعليمُ
دَعْهُ يبصر فيك العدل والإنصاف، وأنت توزِّع اهتمامك على كل تلاميذ الفصل، فلا تُحابي أحدًا، ولا تضع اعتبارًا لأبناء الأعيان دون أبناء الفقراء، ولا تُولِي اهتمامك للنُّجباء وتصفع الكسالى باللامبالاة، أو بكلمات تُخجِلُهم وتَفُتُّ في عَضُدهم.
كن صبورًا، وقدِّم له نموذجًا إيجابيًّا في تحمُّل مصاعب الحياة وهو يراك تمتص سوءَ أدبه بحلمك، وتداوي جهله بعلمك، وليس معنى هذا أن تخضع أو تتذلَّل له، بل تواضع في غير منقصة، وكن لينًا في غير ضعف.
لقد أبصرتُ أخي المدرسَ حالاتٍ كنتَ أنت السبب في إشعال نار فتنتها؛ إما بسبب عجزك عن فرض السيطرة في قسمك، أو لضعفٍ في شخصيتك، أو نقص في زادك العلمي والمعرفي، أو سوء أدب انطلق به لسانك فمَجَّه ذوقُ تلميذك الذي يأنف أن يراك دونه.
فكن حذرًا؛ حتى لا تُؤتَى المهنة من قِبلك، وضَعْ نصب عينيك أنك حامل رسالة قبل أن تكون موظَّفًا، ومسؤول أمام الله قبل أن تكون مسؤولاً أمام الوزارة، ومأجور أو مأزور على حسب نيتك وجهدك في تبليغ رسالتك، ولا تحاول أن تلقي باللائمة على أي طرف قبل أن تستوفي شروط التزامك بميثاق الشرف الذي آليتَ على نفسك أن تكون أمينًا عليه، وقبل أن تُغْلِقَ كلَّ الثغرات التي يمكن أن تُؤتى من قِبَلها.
بُنَيَّ التلميذ:
أعْلَمُ أن ظروفك صعبة، وأنك في كثير من الأحيان ضحية من ضحايا أُسَرٍ مُفكَّكة، ومجتمع فاسد لا يرقب في تربيتك إلاًّ ولا ذمة، لكن حاول أن تقهر أنت هذه الظروف، ولا تجعلها تدمرك وتُجهض أحلامك وتفسد مستقبلك.
اعْلَم: أن المدرس هو أبٌ لك قبل أن يكون أستاذًا، كلما ضاقت نفسك ذرعًا بأوامره وانفرط عقد الصبر من شدة عقابه، فلا تتطاول عليه أو تعامله بالمثل؛ فلست له نِدًّا؛ لا في سنك، ولا في فكرك، ولا في مستواك العلمي، فكن عاقلاً لا متهوِّرًا، وتذكَّر: أنك بعد فورة الغضب، وتنفيس كربك بالسب والشتم والضرب، لن تنال خيرًا، فبين مُساءَلة إدارية وأخرى قانونية ستفقد الكثير من كرامتك، وستجد نفسك تقف مطأطأَ الرأس ترجو الصفح والعفو، بعد أن كنت مستأسدًا لا تخاف بخسًا ولا رهقًا.
بُنيَّ التلميذ، إن شئت أن تفرض ذاتك، فخيرُ سبيل هو علمُك وأدبُك، أما ما تقوم به من لقطات مسرحية بلسانك تارةً، وبجسدك تارةً أخرى، لتثير الانتباه وتُثبِتَ لزملائك أنك قادر على تكدير أجواء القسم والتلاعب بأعصاب الأستاذ، فتلك مغامرةٌ حُسِمَ قبلَك نتائجُها، وتأسَّف على خوض غمارها من هم أشد منك بطشًا، فكن عاقلاً لا مُتهورًا، مفاخرًا بأدبك لا بقلة أدبك.
وانظر إلى حرص السلف الصالح على تعلم الأدب والتنويه به قبل تعلُّم العلم:
فها هو الإمام مالك يقول لفتًى من قريش: "يا بن أخي، تعلَّم الأدبَ قبل أن تتعلم العلمَ".
ويا إدارات مؤسساتنا التعليمية:
كوني مسؤولةً، وكفاك استهتارًا ومهادنةً، فانضباطك وأداؤك للمسؤولية سيُعِينُ كلَّ الأطراف على الالتزام والانضباط، فلا تكوني عونًا لأحد على أحد، وحاولي حلَّ الإشكالات بينهما بعقلانية، بعيدًا عن الاستهتار بالمدرس، أو ممارسة الحيفِ ضد التلميذ.
وتأكدي أن صرامتَك وحزمك في التسيير قد يجنِّبُ الطرفين كثيرًا من المشاكل، والرِّهان على الإدارة الجادة رِهانٌ حقيقي؛ فبنجاحِها ترتقي المؤسسة، وبفشلها تتراكم المشاكل ويستفحل شرُّ المتطفِّلين.
ويا وزارة تربيتنا الكريمة:
التعليم ليس حقلاً للتجارِب، والتلاميذ ليسوا فئرانًا للتجارب، وقد صار الكل واعيًا بالسياسة العشوائية والارتجالية التي يسير بها القطاع، فكفاكِ عبثًا واستهتارًا بمصالح التلميذ والأستاذ، وإن كان هدفك الوصول للهَاوية، فقد سَحقَتْنا رَحاها منذ عقود، ونحن ننتظر بفارغ الصبر إصلاحاتٍ جادةً؛ تنقذ الأجيال القادمة من هذا الضياع، وتعيد لرجل التعليم هيبتَه، وللتلميذ جديَّتَه؛ حتى يستشرف مستقبله في ظل خطًى واضحةٍ.
وعَوْدًا على بَدْءٍ أكرِّرُ ندائي لك أخي المدرس، كنْ مبادرًا واكسب تلاميذك منذ أول جلسةِ لقاء بينكما، وليكن بينكم ميثاقٌ تتفقون عليه قبل الشروع في البرنامج الدراسي، ميثاق سَمِّهِ: "ميثاقَ القسم" أو "النظام الداخلي للقسم"، سيضم مجموعة من البنود التي تؤطر للعلاقة بينكما، ولمنهجية عملك وأسلوب التعامل الأمثل لضمان استقرار وانضباط القسم، أخبِرْ تلميذَك منذ البدء بما له وما عليه، وعلِّمه أنه في حالة الإخلال بهذا الميثاق سيعرض نفسه للعقاب، ولا بأس أن تخبره سلفًا بأشكال العقاب التربوي الذي ينتظره إن هو أصر على مخالفة الميثاق.
دعْ أرضيَّة العمل تكون بناءً مشتركًا بينكما؛ ليشعر التلميذ منذ البداية بقيمته، ويزداد تقديره لك منذ البداية، فالانطباع الأول عليه يبني التلميذ تحرُّكه داخل القسم.