نظرية التقريب والتغليب، هي عبارة عن نسق علمي منهجي، يقوم على فكرة أساسية مشتركة، هي بمثابة البذرة الأولى، ثم تتشعب هذه النظرية شعبا عديدة، وتتفرع عنها فروع لا تُحصى.
الفكرة الأساسية لهذه النظرية – وهي : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) — هي أننا، فيما نسعى إليه من أمور علمية أو عملية، قد نحقق مبتغانا، وننجز مطلوبنا، على أكمل الوجوه وأتمّ الصور. وقد لا نصل إلى ذلك. فإذا وصلنا إلى الكمال والتمام واليقين، فبها ونِعمت. وإذا لم نصل، فها هنا تأتي « نظرية التقريب والتغليب».
وبمقتضى هذه النظرية، فإنه يصح لنا، ويتعين علينا – حين نفتقد اليقين والكمال – أن نتمسك بما تدل عليه الأدلة، وتهدي إليه القواعد وتتيحه الإمكانات الميسورة، مما هو قريب من درجة اليقين والكمال، ومما هو أمثل بها وأشبه.
فإذا لم تتأت درجة التقريب هذه، صرنا إلى التغليب، وهو الأخذ بما غلب صوابه، وبما غلب احتمال صدقه وصحته، وبما غلب من المقادير والأحوال والأوصاف…
هذه هي الفكرة الجنينية لنظرية التقريب والتغليب، وهي فكرة تبدو صغيرة وبسيطة، ولكنها تسري في كافة العلوم، وفي كافة مجالات الحياة، وتخضع لها معظم المسائل العلمية، والممارسات العملية. والذي يعنيني منها الآن، هو دخولها والعمل بها في نطاق العلوم الإسلامية خاصة.
إن الباحث في العلوم الشرعية – من تفسير وحديث وفقه وأصول، وغيرها– يجد معالم هذه النظرية وآثارها، في مختلف جوانب هذه العلوم وفي مختلف قضاياها. يجدها في شكل إشارات وتنبيهات، ويجدها في شكل طرائق استدلالية، تبدو مختلفة، ولكنها عند التمحيص، ترتد إلى جوهر واحد، ويجدها في شكل تطبيقات في غاية التنوع والتباعد، ولكن التأمل وإمعان النظر يكشف أنها جميعا ينظمها خيط واحد. ويجدها أوضح ما يجدها، في شكل قواعد ومبادئ، بعضها يعتبر خاصا بعلم من العلوم، وبعضها مشترك بين علمين، أو بين قضايا متشابهة من علم واحد أو أكثر، وبعضها قواعد غير معلنة وغير مصرح بها، ولكنها مرعية معمول عليها…
وبما أن هذه القواعد تلخص جوانب متعددة من هذه النظرية – ونحن في نطاق تقديم خلاصة النظرية – فلا بأس من ذكر بعضها ولو أنها ستأتي موضحة ومرتبة في مواضعها من هذا البحث:
- ما قارب الشيء يعطى حكمه.
- اليسير معفو عنه.
- اتباع الأحسن والأشبه.
- تقديم الأمثل فالأمثل.
- اعتبار غلبة الظن.
- الظن واجب العمل به.
- العبرة للغالب الأعم.
- النادر لا حكم له.
- الأقل يتبع الأكثر.
- للأكثر حكم الكل.
- الترجيح بالكثرة.
- الأكثرون أكثر صوابا وأقل خطأً.
هذه القواعد وأمثال لها، إنما هي أشكال من التعبير عما أسميته ""نظرية التقريب والتغليب””، ولو أن العلماء أطلقوها كلا على حدة، وطبقوها كلا في موضع، ولكن النظر فيها مجتمعة، وربط تطبيقاتها بعضها ببعض، والنظر في الأساس العلمي الذي تستند إليه، يكشف عن وجود نظرية شاملة، كاملة، ولو أنها كامنة.
وتسميتي لهذه الحصيلة من القواعد والتطبيقات <نظرية> يرجع عندي إلى الاعتبارات الآتية:
1– لكونها جميعا نابعة من أصل واحد، وقائمة على اساس واحد، على ما بينها من تنوع واختلاف وتباعد، وذلك هو الأخذ بالتقريب والتغليب كلما تعذر أو تعسر ما هو أفضل. فالنظرية هنا تعني النسق العلمي الذي ينظم في انسجام وتكامل مجموعة من الحقائق والأحكام ترجع إلى أصل واحد وجوهر واحد.
2– لكونها – في جملتها – نظرية مشهود لصحتها وقطعيتها بالأدلة المعتبرة شرعا وعقلا.
3– لكون هذه النظرية يمكن إخضاعها – عند التطبيق إلى ضوابط وقواعد منهجية تجعل منها أداة علمية مضبوطة ومأمونة العواقب والنتائج.
نظرية التقريب والتغليب، 9 – 11
د.أحمد الريسوني
من قوله تعالى "مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”. سورة البقرة 261.
التعديل الأخير تم بواسطة محمد فرج الأصفر ; 10-28-2014 الساعة 11:40 AM.