الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرّفهم في أطوار التّخليق كيف شاء عزّةٌ واقتداراً، وأرسل الرّسل إلى المكلّفين إعذاراً منه وإنذاراً، فأتمّ بهم على من اتّبع سبيلهم نعمته السّابغة، وأقام بهم على من خالف مناهجهم حجتّه البالغة، فنصب الدّليل، وأنار السبيل، وأزاح العلل، وقطع المعاذير، وأقام الحجّة، وأوضح المحجّة، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وحجّته على عباده، وأمينه على وحيه، أرسله رحمةٌ للعالمين، وقدوةً للعالمين، ومحجّةَ للسّالكين، وحجّةً على المعاندين، وحسرةً على الكافرين، أرسله بالهدى ودين الحقّ بين يدي السّاعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنعم به على أهل الأرض نعمةً لا يستطيعون لها شكوراً.
لا شك في أن الابتلاء والاضطهاد كانا من أسباب الهجرة، كما أن توفير ملاذ آمن للدعوة يهيئ لها المناخ الملائم للعمل الإيجابي كان من أسبابها المهمة، ويتضح ذلك بشكل بارز من نصوص بيعة العقبة الثانية، التي بيّنت أن تكذيب قريش للرسول كان وراء الانتقال عن مكة، فقد كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله مخافة أن يفتن. ولذلك جاء اختيار يثرب داراً للهجرة مما اقتضته ظروف الدعوة فقط، وإنما كان ذلك بوحي من الله سبحانه وتعالى. فحق علينا أن نقف طويلاً أما هذا الأمر الإلهي لنأخذ الحكم والعبر في رحلة الهجرة النبوية الشريفة.
كان مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم أول من هاجر إلى المدينة وكانا يُقرئان الناس القرآن كما صرح بذلك البخاري. في حين وردت روايات أخرى تفيد بأن أول من هاجر هو أبو سلمة بن عبد الأسد وذلك بعد أن آذته قريش على أثر رجوعه من هجرته إلى الحبشة.
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب:
تآمرت قريش على حياة الرسول الكريم بد أن علم المشركون بما تم بين الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار في العقبة الثانية ورأوا المسلمين يهاجرون إلى يثرب جماعات وأفراداً. فعقد زعماء قريش اجتماعاً خطيراً في دار الندوة تشاوروا في أضمن الوسائل للتخلص من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد لخّص القرآن الكريم الآراء التي طرحوها في قوله تعالى: (وإِذْ يَمْكُرُ بِك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوك أَوْ يَقْتُلُوك أَوْ يخْرِجُوك وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيرُ الْمَكرِينَ) الأنفال: 30
وحين أمر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى يثرب، جاء صلى الله عليه وسلم متقنعاً إلى منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في وقت لم يعتد أن يزوره فيه، في نحر الظهر، وهو أشد ما يكون في حرارة النهار، فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلُك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإنٍّي قد أُذن لي في الخروج، فقال أبو بكر الصحبة بأبي أنت يا رسول الله،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحثَّ الجهاز، وصنعنا لهما سفُرة في جرابٍ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شابٌ ثقفٌ لقنٌ، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يُكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخير ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحهما عليها حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسلٍ وهو لبن منحتهما ورضيفهما، حتى ينعق بها عامر بن فهيره بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. وبعد أن أخفقت فريش في العثور عليهما، أعلنت عن مكافأة لمن يقتلهما أو يأسرهما، وانقطع الطلب عنهما. واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه رجلاً من بني الدَّيل وهو من بني عبد بن عدي هادياً خِرّيتاً، قد غمس حلقا في آل العاص بن وائل السهميّ، وهو على دين كفار فريش، فأمناهُ، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صُبح ثلاث، وانطلق معهما عامر ابن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل،
قد تحدث أبو بكر الصديق عن بداية رحلة الهجرة النبوية فقال: "أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت:"نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك، فنام". وهذا أول معجزة وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة.
وحصلت المعجزة الثانية حين عصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم وحماه من سراقة بن مالك، الذي طلبهم طمعاً في جائزة قريش. وينقل البخاري حديث سراقة حيث يقول: "وقد كنت أرجو أن أردّه على قريش فآخذ المائة الناقة. قال فركبت فرسي على أثره، فبينما فرسي يشتد بي، عثر بي فسقطت عنه، قال فقلت ما هذا؟! فال ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره. قال فأبيت إلا أن أتبعه. قال فركبت في أثره، فبينما فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه، قال فقلت ماهذا؟! وذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار قال: فعرفت حين رأيت أنه قد منع مني، وأنه ظاهر قال: فناديت القوم، فقلت أنا سراقة جشعم انظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "قل له وما تبغي منا؟" فقال له ذلك أبو بكر قال: قلت: تكتب لي كتاباً يكون آية بيني وبينك. قال: "أكتب له يا أبا بكر". فكتب لي كتاباً في عظم أو في رقعة أو في خزفة، ثم ألقاه إلي فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت فسكتُّ فلم أذكر شيئا مما كان، فيم حكى خبر لقائه هذا بعد فتح مكة وإسلامه.
وأما المعجزة الثالثة وقعت بخيمة أم معبد بقديد طالبين القرى، فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها، إلا شاة هزيلة لا تدر لبناً فأخذ صلى الله عليه وسلم الشاة فمسح ضرعها بيده، ودعا الله، وحلب في إناء حتى علت الرغوة، وشرب الجميع. فقال أبو معبد (الصحابي قيس بن النعمان) أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ؟ قال: إنهم يقولون، قال: أشهد أن ما جئت به حق. ثم قال: أتبعك، قال: لا حتى تسمع إنا قد ظهرنا. فاتّبعه بعد.
وصول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة:
كان المسلمون في المدينة قد سمعوا بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه حتى إذا اشتد الحر عليهم عادوا غلى بيوتهم، فلما كان يوم الاثنين الثاني من ربيع الأول سنة أربع عشرة من المبعث الموافق(23 سبتمبر 622م). انتظروهُ حتى لم يبق لهم ظل يستظلون به، فعادوا وقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد دخلوا بيوتهم، فبصربه يهودي فناداهم، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بظهر الحرّة وهم يهللون ويكبرون، وسمعت الرجّة والتكبيرة في بني عمرو بن عوف، فكبر المسلمون فرحاً بقدومه وخرجوا وتلقوه وحيّوه بتحية النبوّة. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم في قباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء.
ولما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يدخل المدينة أرسل إلى زعماء بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم. وقدر عدد الذين استقبلوه من المسلمين الأنصار خمسمائة حيث أحاطوا بركب النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه. ومضى الموكب داخل المدينة والجموع تهتف: "جاء نبي الله .... جاء نبي الله". وقد صعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان في الطرق وهم ينادون: "يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله". قال الصحابي البراء بن عازب رضي الله عنهما: "ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم".
وتطلع زعماء الأنصار إلى استضافة الرسول وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم بناقته حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب الأنصاري، فتساءل: "أي بيوت أهلنا أقرب" فقال أبو أيوب: "أنا يا نبي الله، هذه داري، وهذا بابي" فنزل صلى الله عليه وسلم في داره.
اقترعت الأنصار على سكنى إخوانهم المهاجرين وآثروهم على أنفسهم، فأثنى الله تعالى عليهم ثناء عظيماً، خلّد ذكرهم وحسّن صنيعهم أبد الدهر، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر: 9.
وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار ثناءً عظيماً فقال: "لولا الهجرةُ لكنت إمرأً من الأنصار" البخاري
وقال: " ولو سلكت الأنصارُ وادياً أو شعباً لسلكتُ واديَ الأنصار أو شعبهم" البخاري
وللحديث بقية
في السلسلة النبوية