الحمد لله رب العالمين
أحمده سبحانه حمداً يليق بجلاله وعظمته وقدرته وعظيم سلطانه
الحمد لله الذي جعل لنا أياما ومواسم نغتنم منها كثير الحسنات
وفضل بعد الأيام على بعضها لتكون تجارة لنانتاجر فيها بالطاعات لتحط عنا السيئات وترفع بها الدرجاتبفضل رب الارض والسموات
وصل الله وسلم على خير خلق الله محمد بن عبد الله
الذي له الفضل بعد الله في تبليغ دعوة الله وتعليم هذه الأمة كيف تحرص على الطاعات وتغتنم النفحات،وعلى آل بيته وأصحابة والتابعين بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعـــــــد
عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ
قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)التوبة 36
قال أهل التفسير:
الشهورجَمْع شَهْر وأَقَلّ الْجَمْع ثَلَاثَة أَشْهُر وعند الله يُرِيد اللَّوْح الْمَحْفُوظ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَشْيَاء يُوصَف بِأَنَّهُ عِنْد اللَّه، وَلَا يُقَال إِنَّهُ مَكْتُوب فِي كِتَاب اللَّه كَقَوْلِه : (ِإِنَّ اللَّه عِنْده عِلْم السَّاعَة)لُقْمَان : 34 .
إِنَّمَا قَالَ " يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض " لِيُبَيِّن أَنَّ قَضَاءَهُ وَقَدَره كَانَ قَبْل ذَلِكَ , وَأَنَّهُ سُبْحَانه وَضَعَ هَذِهِ الشُّهُور وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا عَلَى مَا رَتَّبَهَا عَلَيْهِ يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض , وَأَنْزَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ فِي كُتُبه الْمُنَزَّلَة .
وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: (إِنَّ عِدَّة الشُّهُور عِنْد اللَّه اِثْنَا عَشَر شَهْرًا) وَحُكْمهَا بَاقٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُزِلْهَا عَنْ تَرْتِيبهَا تَغْيِير الْمُشْرِكِينَ لِأَسْمَائِهَا , وَتَقْدِيم الْمُقَدَّم فِي الِاسْم مِنْهَا . وَالْمَقْصُود مِنْ ذَلِكَ اِتِّبَاع أَمْر اللَّه فِيهَا وَرَفْض مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ تَأْخِير أَسْمَاء الشُّهُور وَتَقْدِيمهَا , وَتَعْلِيق الْأَحْكَام عَلَى الْأَسْمَاء الَّتِي رَتَّبُوهَا عَلَيْهِ , وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي خُطْبَته فِي حَجَّة الْوَدَاع: (أَيّهَا النَّاس إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه .
وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ جَعْل الْمُحَرَّم صَفَرًا وَصَفَر مُحَرَّمًا لَيْسَ يَتَغَيَّر بِهِ مَا وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى
وهَذِهِ الْآيَة تَدُلّ
عَلَى أَنَّ الْوَاجِب تَعْلِيق الْأَحْكَام مِنْ الْعِبَادَات وَغَيْرهَا إِنَّمَا يَكُون بِالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ الَّتِي تَعْرِفهَا الْعَرَب , دُون الشُّهُور الَّتِي تَعْتَبِرهَا الْعَجَم وَالرُّوم وَالْقِبْط وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى اِثْنَيْ عَشَر شَهْرًا , لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَة الْأَعْدَاد , مِنْهَا مَا يَزِيد عَلَى ثَلَاثِينَ وَمِنْهَا مَا يَنْقُص , وَشُهُور الْعَرَب لَا تَزِيد عَلَى ثَلَاثِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا يَنْقُص , وَاَلَّذِي يَنْقُص لَيْسَ يَتَعَيَّن لَهُ شَهْر , وَإِنَّمَا تَفَاوُتهَا فِي النُّقْصَان وَالتَّمَام عَلَى حَسَب اِخْتِلَاف سَيْر الْقَمَر فِي الْبُرُوج .
الأشهر الحرم
الْأَشْهُر الْحُرُم الْمَذْكُورَة فِي هَذِهِ الْآيَة ( ذُو الْقِعْدَة وَذُو الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم وَرَجَب )الَّذِي بَيْن جُمَادَى الْآخِرَة وَشَعْبَان , وَهُوَ رَجَب مُضَر , وَقِيلَ لَهُ رَجَب مُضَر لِأَنَّ رَبِيعَة بْن نِزَار كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَهْر رَمَضَان وَيُسَمُّونَهُ رَجَبًا . وَكَانَتْ مُضَر تُحَرِّم رَجَبًا نَفْسه , فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : ( الَّذِي بَيْن جُمَادَى وَشَعْبَان ) وَرَفَعَ مَا وَقَعَ فِي اِسْمه مِنْ الِاخْتِلَال بِالْبَيَانِ .
وَكَانَتْ الْعَرَب أَيْضًا تُسَمِّيه مُنْصِل الْأَسِنَّة , رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي رَجَاء الْعُطَارِدِيّ - وَاسْمه عِمْرَان بْن مِلْحَان وَقِيلَ عِمْرَان بْن تَيْم – قَالَ:( كنَّا نَعْبُد الْحَجَر , فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ خَيْر مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَر , فَإِذَا لَمْ نَجِد حَجَرًا جَمَعْنَا حَثْوَة مِنْ تُرَاب ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاءِ فَحَلَبْنَا عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْر رَجَب قُلْنَا مُنْصِل الْأَسِنَّة , فَلَمْ نَدَع رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَة وَلَا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَة إِلَّا نَزَعْنَاهَا فَأَلْقَيْنَاه.
تخصيص الأشهر الحرم
خَصَّ اللَّه تَعَالَى الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر الْحُرُم بِالذِّكْرِ ، وَنَهَى عَنْ الظُّلْم فِيهَا تَشْرِيفًا لَهَا وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي كُلّ الزَّمَان . كَمَا قَالَ: (فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوق وَلَا جِدَال فِي الْحَجّ)الْبَقَرَة : 197 عَلَى هَذَا أَكْثَر أَهْل التَّأْوِيل . أَيْ لَا تَظْلِمُوا فِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر أَنْفُسكُمْ . وَرَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد عَنْ يُوسُف بْن مِهْرَان عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : " فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسكُمْ " فِي الِاثْنَيْ عَشَر . وَرَوَى قَيْس بْن مُسْلِم عَنْ الْحَسَن عَنْ مُحَمَّد اِبْن الْحَنَفِيَّة قَالَ : فِيهِنَّ كُلّهنَّ . فَإِنْ قِيلَ عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل : لِمَ قَالَ فِيهِنَّ وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا ؟وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَب يَقُولُونَ لِمَا بَيْن الثَّلَاثَة إِلَى الْعَشَرَة : هُنَّ وَهَؤُلَاءِ فَإِذَا جَاوَزُوا الْعَشَرَة قَالُوا : هِيَ وَهَذِهِ , إِرَادَة أَنْ تُعْرَف تَسْمِيَة الْقَلِيل مِنْ الْكَثِير . وَرُوِيَ عَنْ الْكِسَائِيّ أَنَّهُ قَالَ : إِنِّي لَأَتَعَجَّب مِنْ فِعْل الْعَرَب هَذَا . وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا دُون الْعَشَرَة مِنْ اللَّيَالِي : خَلَوْنَ . وَفِيمَا فَوْقهَا خَلَتْ . لَا يُقَال : كَيْفَ جَعَلَ بَعْض الْأَزْمِنَة أَعْظَم حُرْمَة مِنْ بَعْض ،فَإِنَّا نَقُول : لِلْبَارِئ تَعَالَى أَنْ يَفْعَل مَا يَشَاء ، وَيَخُصّ بِالْفَضِيلَةِ مَا يَشَاء ، لَيْسَ لِعَمَلِهِ عِلَّة وَلَا عَلَيْهِ حَجْر ، بَلْ يَفْعَل مَا يُرِيد بِحِكْمَتِهِ ، وَقَدْ تَظْهَر فِيهِ الْحِكْمَة وَقَدْ تَخْفَى .
الأصل بأن الظلم بأنواعه محرم في كل وقت ولكن يزيد في وقت عن وقت ، وفي كل ماكن ولكن يزيدمن مكان إلى مكان، فمن ظلم في الأشهر الحرم أشد من ظلم في غيرها ، ومن ظلم في الأرض الحرام أشد من ظلم في أرض غير حرام ، ومن ظلم الناس سواء في دمائهم أو أعراضهم أو أموالهم ، أشد من ظلم نفسه . وهكذا يزيد ويقل الظلم بحسب الزمان والمكان والفعل والمفعول فيه.
ظلم الإنسان للخالق سبحانه وتعالى ، وذلك أما بالكفر.
قال تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) البقرة:254.
أويكون بالشرك في عبادته وذلك بصرف بعض عبادته لغيره سبحانه وتعالى.
وقال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لقمان:13
ظلم الإنسان لغيره من عباد الله ومخلوقاته ، والظلم يقع غالباً بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار.
قال تعالى:(وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) إبراهيم: 42 ـ 43
وقال تعالى:(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) هود: 102
وقال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) القلم: 44 ـ 45
وعن أبي هريرةأن رسول اللهقال: (أتدرون ما المفلس، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم وطرحت عليه، ثم طرح في النار)رواه مسلم. لقد تعددت صور الظلم في هذا الزمان حتى أصبحت لا تعد ولا تحصى وصار الظلم هو السائد في معظم الأرض وفي كثير من البلدان . ومن هذه الصور
الضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء ، والتعذيب في السجون والمعتقلات ، واغتصاب الحقوق ، وسفك دم الأبرياء، وأكل مال الناس بالباطل ، وقول الزور ، والحكم على المظلوم بالباطل ،والكذب ،وأكل صداق الزوجة بالقوة ، والسرقة ، وأذيه المؤمنين والمؤمنات والجيران ،والغش ،وكتمان الشهادة ،والتعريض للآخرين ، وطمس الحقائق وتغيرها ، والغيبة ، ومس الكرامة ، والنميمة ، وخداع الغافل ، ونقض العهود وعدم الوفاء ، ، والسكوت عن قول الحق ، وعدم رد الظالم عن ظلمه ظلم ، وعدم العدل في العطية ، وموالاة الكافرين ، إلى غير ذلك من أنواع الظلم الظاهر والخفي.
فتذكر أيها الظالم: الموت وسكرته وشدته، والقبر وظلمته وضيقه، والميزان ودقته، والصراط وزلته، والحشر وأحواله، والنشر وأهواله. تذكر إذا نزل بك ملك الموت ليقبض روحك، وإذا أنزلت في القبر مع عملك وحدك، وإذا استدعاك للحساب ربك، وإذا طال يوم القيامة وقوفك.
قال تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) الشعراء: 227
ظلم الإنسان نفسه، وذلك بإتباع الشهوات وإهمال الواجبات، وتلويث نفسه بآثار أنواع الذنوب والجرائم والسيئات ، من معاصي لله ورسوله. قال جل شأنه (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)النحل:33.
فيا أيها الظالم لنفسه ، يا أيها الظالم لغيره ، ها نحن في الأشهر الحرم ، ولم تغرغر ، ولم تطلع الشمس من مغربها ، فعجل بالتوبة والأوبة إلى الرحيم الرحمن الغفور المنان ، ورد المظالم إلى أهلها ، وأقلع عن الذنوب ، وصوم عن الدنيا وأفطر على الآخرة.
يا قوم..
أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسن والأسماع والأبصار،أفما لنا فيهم أسوة؟فنشكوا إلى الله أحوالنا، فرحماك ربنا أعمالنا، فلا إله إلا الله كم ضيعنا من أعمارنا، فكلما حسنت من الأقوال ساءت الأعمال، فأنت حسبنا وملاذنا.
يا نفس فاز الصالحون بالتقى *** وأبصروا الحق وقلبي قد عمي
يا حسنهم والليل قد جنهم *** ونورهم يفوق نور الأنجم
ترنموا بالذكر في ليلهم *** فعيشهم قد طاب بالترنم
قلوبهم للذكر قد تفرغت *** دموعهم كالؤلؤ منتظم
أسحارهم بهم لهم قد أشرقت *** وخلع الغفران خير القسم
ويحك يانفس ألا تيقظ *** ينفع قبل أن تزل قدمي
مضى الزمان في توان وهوى *** فاستدركي ما قد بقي واغتنمي
وأخيرا نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال
ويوفقنا إلى فعل الطاعات في سائر الأيام وعلى جميع الأحول
ويجعلنا وإياكم من المقبلين
ويدخلنا في رحمته
إلى يوم الدين
ولا تنسونا من صالح دعائكم