الحمد لله الذي بتحميده يستفتح كل كتاب ، وبذكره يصدر كل خطاب وبحمده يتنعم أهل النعيم في دار الجزاء والثواب ، وباسمه يشفى كل داء ، وبه يكشف كل غمة وبلاء ، إليه ترفع الأيدي بالتضرع والدعاء ، في الشدة والرخاء ، والسراء والضراء ، وهو سامع لجميع الأصوات ، بفنون الخطاب على اختلاف اللغات ، والمجيب للمضطر الدعاء ، فله الحمد على ما أولى وأسدى ، وله الشكر على ما أنعم وأعطى ، وأوضح الحجة وهدى ، وصلواته على صفيه ورسوله الذي به من الضلالة هدى ، محمد وآله وأصحابه وإخوانه المرسلين والملائكة المقربين ، وسلم تسليماً كثيراً
أما بعـــــــــــد
هل يُصدق أحد ، أو يَخطر ببال مسلم أي كان منحله أو موطنه أن يأتي يوم على بيت من بيوت الله عز وجل ، أن يُهان ويُمنع فيه الأذان ، ويرمى عليه الحجارة والزجاجات الحارقة ، ويحاصر من فيه من المصلين أكثر من خمسة عشرة ساعة ، ولم تتدخل الأجهزة الأمنية لحماية بيت من بيوت الله ؟!، وعالم من علماء المسلمين وإمام من أئمة الهدى أمضى أكثر من نصف قرن داعياً إلى الله عز وجل يصدع بالحق ولا يخشى في الله لومة لائم ولا ظلم جائر ، إنه العالم الجليل الشيخ المسن ( أحمد المحلاوي ) ومن له سبق مثل سبقه في جهاد الطواغيت وقول الحق المبين ، وأين يحدث هذا ؟! لا أقول في فلسطين المحتلة أو في بلد من بلاد الكفر والطغيان التي تحارب الإسلام ، بل في مِصر ، مِصر المسلمة بلد الأزهر والمآذن ، بلد الأنبياء والعلماء والمجاهدين والعابدين والصابرين المحتسبين ، مِصر أرض الكنانة والأهرامات والنيل ، التي ذكرها الله في كتابه الكريم تصريحاً وتلميحاُ ، ولم يذكر مُثلها في كتاب ربنا .
أول مسجد وضع على الأرض
وأول مسجد وضع على الأرض المسجد الحرام ، وهو مسجد مكة كما قال تعالى : ﴿إِنَّأَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) آل عمران : 96
أجمع المفسرون علي أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع في الأرض , وتعددت الروايات في تحديد من بني هذا البيت العتيق ، وإن كان من الثابت قرآنا وسنة أن الملائكة بنته عند تمام خلق السماوات والأرض ،وكانوا أول من طاف به.
و عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول قال صلى الله عليه وسلم : " المسجد الحرام " قال قلت ثم أي قال : " المسجد الأقصى "
قلت كم كان بينهما قال : " أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله فإن الفضل فيه " رواه البخاري .
أول مسجد وضع في مِصر
وأول بيت وضع للناس بالقاهرة ، الجامع الأزهر ، وهو مسجد بناه الكاتب الصقلي( إلياس الصقلي) قائد جند أبي تميم معد بعد عام من دخول الفاطميين لمصر ، لما اختط القاهرة وفرغ من بنائه لسبع خلون من رمضان ، وأقيمت الجمعة في شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلثمائه ، وكان بناء القاهرة سنة ثمان وخمسين وثلثمائة ، ثم أتى العزيز بن المعز فجدد فيه أشياء وعمر به عدة أماكن .
المساجد بيوت الله في الأرض
من المعلوم بأن أشرف بقاع الأرض مساجدها ، وأن الرحمة إذا هبطت من السماء فأول ما تنزل على المساجد وروادها ، وكل البيوت تنسب إلى إهلها من البشر ماعدا
المسجد فإنه ينسب إلى الله عز وجل كما قال سبحانه وتعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً) الجن: 18
وقال تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُفِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌعَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًاتَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) النور : 36 ـ 37
والمساجد رفع الله منزلتها ، وآثرها بمزيد فضله ورضوانه ، وأسبغ عليها من حمايته وسلطانه ، حتى كانت في عين الزمان حلية أوليائه ومنارة أتقيائه ، ومثوى للصالحين في الأرض ، فيها يصل المسلم حباله بحبال السماء ، ويزكي نفسه ويسمو بروحه ، وهي منازل أدب ووقار ، فلا يرفع فيها لصوت ولا للغو ، ولا مجال فيها لبيع أو شراء ، ولا يسمح فيها بإثارة الأهواء والمنازعات والمشاحنات ونحوها. فالمساجد في حياة المسلمين منارة يشع من مآذنها ومنابرها النور والخير والهدى إلى جنبات المجتمع ، ويصدع فيه بالحق ويُعلم الناس فيه كيف تدور شئون الحياة وهو ليس بمعزل عن قضاياهم وأمور دنياهم.
عمارة المساجد من الإيمان
لقد أمر الله سبحانه وتعالى بعمارة المساجد إما بالبناء أو بالعباد وتطهيرها وتطييبها والمحافظة عليها ، وتعظيمها لحرمتها .
قال تعالى : (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ) التوبة : 18
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة ) متفق عليه
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) رواه مسلم
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : (لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) رواه مسلم
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قلت يا رسول الله وما رياض الجنة قال المساجد قلت وما الرتع يا رسول الله قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) قال الترمذي : حديث حسن صحيح ،وقال الألباني: صحيح
3509
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه) رواه الشيخان . والشاهد: ورجل قلبه معلق في المساجد دائم الجلوس فيه وكلما خرج منه اشتاق إليه للجلوس فيه
دور المسجد في الإسلام
إن للمسجد دور مهم في الإسلام وفي حياة المسلمين ، فعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لإقامة الدولة الإسلامية ، أول ما بدأ به بناء المسجد لأنه مقر للحكم والولاية ، والنظر في أمور الدنيا والدين ، وعقد المعاهدات والاتفاقات ، واستقبال الوفود ، وإدارة شئون البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، والتعبدية من قراءة قرآن ووعظ وإرشاد وندوات ومناظرات ، وإقامة الصلوات في الجمع والجماعات ، وفيه يعقد النكاح ، ويجوز فيه ( اللعان ) ، ومجالس القضاء ، وعقد الصفقات ، ومجالس الحرب وعقد اللواء ، والشورى مع الأصحاب في سياسة الدولة وباقي الدويلات . فكان مركز قيادة الدولة الذي يقود هذه الأمة. ولم نسمع من قبل عن هذه البدع وتلك الفرية بأن المسجد للصلاة وليس لسياسة الدولة ومشاكل الأمة ، وفصل المسجد عن الدنيا ، وكأنها سنة ، وهي ورب الكعبة بدعة ابتدعها الطواغيت في العصور المظلمة والحديثة.
مَنع المساجد وخرابها:
قال تعالى : (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذاب عظيم) البقرة :114
هذا الاستفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم متناه وأنه بمنزلة لا ينبغي أنيلحقه سائر أنواعالظلم:أي لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، والمراد بمنع المساجد أن يذكر فيها اسم الله منع من يأتي إليها للصلاة والتلاوةوالذكر وتعليمه. والمراد بالسعي في خرابها : هو السعي في هدمها ورفع بنيانها ويجوزأن يراد بالخراب تعطيلها عن الطاعات التي وضعت لها فيكون أعم من قوله : " أن يذكرفيها اسمه " فيشمل جميع ما يمنع من الأمور التي بنيت لها المساجد كتعلم العلموتعليمه ، والقعود للاعتكاف ، وانتظار الصلاة ، ويدخل في ذلك غلقها لغير حاجة أو ضرورة ، أو جعلها للعبادات فقط دون سائر الحاجات ، وصرفها عن دورها .
فعن أمية بن يزيد , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في الإسلام حدثا ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل " ، قيل: يا رسول الله ، فما الحدث ؟ قال : " من قتل نفسا بغير نفس ، أو امتثل مثلة بغير قود ، أو ابتدع بدعة بغير سنة) مرفوع : رواه إسحاق في مسنده ، والربيع ، وابن حجر في المطالب العالية ، وعبد الرزاق في مصنفه
و عَنْ أبي موسى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا ، أَوْ فِي سُوقِنَا ، وَمَعَهُ نَبْلٌ ، فَلْيُمْسِكْ" أَوْ قَالَ : " فَلْيَقْبِضْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْءٌ " . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
ولو أنزلنا هذه الآية الكريمة على الواقع الحالي والوضع الأليم المأساوي وما حدث في مسجد ( القائد إبراهيم ) من حصار للمصلين ومنع الأذان وانتهاك حرمة المسجد الذي هو بيت من بيوت الله ، من طائفة ضالة مضلة باعت الإسلام ونكثت الإيمان من أجل مفاهيم منكوثة أو دراهم معدودة ، وإعادة لجرم كان يُفعل بالمساجد والعلماء في عهد المخلوع السابق ، وهو أكبر دليل على أنه تخطيط من الفلول ، وأن الدولة العميقة قائمة في مصر الحبيبة ، تخطط من أجل انتشار الفرقة والفوضى وسفك دماء الأبرياء وهدم القيم والأخلاق لعدم قيام دولة بها عدل ومؤسسات ، والحيلولة دون النهوض من الكبوة والظلمة ونجاح مكتسبات الثورة ، لكي يعم الأمن والاستقرار ويسود الخير ونبدأ في التنمية والبناء. وإني لا احذر أصحاب المصالح الدنيوية والأجندات الشخصية ، ممن لهم دور في هذا الهدم والتخريب سواء بالمال أوالتحريض ، في الداخل والخارج ، أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا عن هذا الظلم والجور والبغي والعدوان ، ويعلموا بأن الكراسي فانية والدنيا ليس باقية ، وكل شيء هالك إلا وجه سبحانه وتعالى ، وإنهم موقوفون بين يدي علام الغيوب ، ومسئولون عما يفعلون ، فليعدوا للسؤال جواب ويتهيئوا للعرض الأكبر على الجبار يوم القيامة ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من آتى الله بقلب سليم.
اللهُمَّ اجعلْنَا مِنْ عُمارِ المساجدِ وروادِهَا ووفقْنَا لرعايتِهَا والقيامِ بشؤونِهَا ، اللهم حفظ مِصر وأهلها من الفتن ما ظهر منها وما بطن واجعلها في كنفك ورعايتك وأمنك وحفظك ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهُمَّ إنَّا نسألُكَ مِنَ الخَيرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وآجِلِهِ مَا عَلِمْنَا مِنهُ ومَا لَمْ نعلمْ ، ونعوذُ بِكَ مِن الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وآجِلِهِ مَا عَلِمْنَا مِنهُ ومَا لَمْ نَعلمْ، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ مِمَّا سَألَكَ منهُ سيدُنَا مُحمدٌ صلى الله عليه وسلم ونَعُوذُ بِكَ مِمَّا تَعوَّذَ مِنْهُ سيدُنَا مُحمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين