في الوقت الذي تركَّز فيه اهتمام العالم على أوكرانيا وغزة، استولت الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على ثلث سوريا لتضيفه إلى ربع العراق الذي كانت قد استولت عليه في يونيه. لتغطي حدود الخلافة الجديدة التي أعلنت عنها داعش في 29 يونيه مساحة أكبر من بريطانيا العظمى، ويسكنها أكثر من ستة ملايين شخص – أكثر من تعداد سكان الدنمارك أو فنلندا أو أيرلندا - وفي غضون أسابيع قليلة من القتال في سوريا. نجحت داعش في فرض نفسها كقوة مسيطرة في المعارضة السورية، وأزاحت التنظيم التابع رسميًّا للقاعدة ــ جبهة النصرة ــ من محافظة دير الزور الغنية بالنفط، لتصبح القوة المسلحة الثانية في سوريا، والمرشح الأول لاستلام زمام الأمور حال سقوط نظام الأسد.
ولادة هذه الدولة الجديدة هو أكبر تغيير على الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط منذ تطبيق اتفاقية سايكس- بيكو بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. لكن الغريب أن هذا التحول الهائل لم يولِّد سوى القليل من الإنذار دوليًّا وحتى في أوساط أولئك الساسة الفسدة في العراق وسوريا ممن ليسوا بعد تحت حكم داعش، حيث كانوا يميلون إلى التعامل مع داعش كما لو كانت جماعة من البدو الغزاة التي تظهر بشكل درامي من الصحراء وتحقق انتصارات باهرة، ومن ثم تتراجع إلى معاقلها تاركة الوضع الراهن دون تغيير يذكر. يمكن تصوّر هذا السيناريو، لكن احتماليته في تضاؤل مستمر مع إحكام داعش لقبضتها على فتوحاتها الجديدة في منطقة يمكن أن تمتد قريبًا من إيران إلى البحر المتوسط. وإعلانها صراحة عن نيتها تحطيم حدود سايكس ـ بيكو وإنشاء دولة الخلافة الأممية.
لم يفق الأمريكان وحلفاؤهم من غفلتهم واستهتارهم أو قل تجاهلهم لقوة الدولة الإسلامية إلا وهم يرون قوات الدولة تقتحم إقليم كردستان الذي يمثل نواة مشروع التقسيم الأمريكي للمنطقة بأسرها، وازدادت وتيرة الخطر باقتراب داعش من مدينة أربيل التي تعبر مركز العمليات الخاصة والمخابراتية الأمريكية في المنطقة، عندها قرر الأمريكان دق ناقوس الخطر والحشد لحلف دولي لقتال تنظيم الدولة في العراق وسوريا. ولكن مع النظر والتدقيق في مجريات الأحداث ومتابعة التصريحات اليومية للمسئولين الأمريكيين وحلفائهم الأوروبيين والعرب نجد أن الأهداف الحقيقية للحلف الأمريكي أكبر وأبعد وأعمق من كونها حربًا على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وأن أبرز هذه الأهداف هو بناء نظام إقليمي جديد، وليس استعادة الأنظمة القديمة أو إصلاح بعض تروسها المكسرة تحت وطأة ثورات الربيع العربي.
فالمبررات التي يسوقها الأمريكان لشن حملة دولية على داعش في هذا التوقيت يعتريها كثير من الخلل والضبابية، فأهداف الحملة غير واضحة، فهي تارة لقتال داعش وتدميرها، وتارة لمحاربة الإرهاب، وتارة للتخلص من نظام الأسد، وتارة لحماية الأمن القومي الأمريكي، وتارة دفاعًا عن الأقليات، وهكذا نرى لتلكم الحملة الصليبية هدفًا جديدًا كل يوم، لا تكاد أن ترى فيهم هدفًا واضحًا محدد الملامح، ومع تغيير الأهداف اتسعت المجالات، فمن قتال الدواعش في العراق فقط إلى قتالهم في العراق وسوريا، إلى محاربة الإرهاب في ليبيا وتونس، إلى محاربة الإرهاب في المنطقة بأسرها من الخليج إلى المحيط، أيضًا تغيرت الخطط القتالية الموضوعة، فتطورات الأوضاع الميدانية توشي بثمة تدخل عسكري أمريكي بري بقوات من النخبة والعمليات الخاصة، وأن تعهدات أوباما بعدم مشاركة أي جندي أمريكي في العمل الميداني والاقتصار على الضربات الجوية، ما هي إلا مخدرات للرأي العام الأمريكي غير المتفهم لهذه النوعية من الحروب، حتى أن الكاتب والمعلق الأمريكي ديفيد إجناتيوس، تساءل في مقال له بصحيفة "واشنطن بوست "، عما أسماه "لغز الأمن القومي": كيف يمكن للرئيس أوباما تقديم دعم عسكري محدود على الأرض للمساعدة في إضعاف داعش ومن ثم تحطيمها في نهاية المطاف من دون نقض تعهده بعدم إرسال قوات أمريكية محاربة؟
والإجابة ـ على حد قوله ـ تكمن فيما يُعرف باسم "الفصل 50 " وهو الفصل من قانون الولايات المتحدة الذي ينظم أنشطة وكالة الاستخبارات المركزية. وكثيرًا ما يستشهدون بالمادة 413 (b) التي تتعلق بالموافقة الرئاسية والإبلاغ عن "الإجراءات السرية".
وعند قراءة مشهد التحالف الأمريكي تاريخيًّا وإستراتيجيًّا، نجد حقيقة واحدة ماثلة أمام الجميع وهي: لم يسفر التدخل الأمريكي في بقاع العالم الإسلامي عامة ومنطقة الشرق الأوسط خاصة في أي يوم من الأيام إلا عن كوارث جسام. ولا يتوقع عاقل أن ينتج عن التدخل الأمريكي الجديد في سوريا والعراق غيرُ ذلك؛ لأن الإجراءات نتيجة للسياسات، والسياسات انعكاس للإستراتيجيات، والمتأمل يجد أن الإستراتيجيات الأمريكية تغيرت ببطء خلال نصف القرن الماضي في عدد من القضايا الدولية (كالعلاقة مع المعسكر الشرقي على سبيل المثال) إلا أنها لم تتغير قط في منطقة الشرق الأوسط، كما أنها لم تتغير تجاه العالم الإسلامي، حيث تحكم السياسة الأمريكية الخارجية أربع إستراتيجيات كبرى ما تزال تحدد شكل علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اليوم: حماية أمن "إسرائيل"، وتتحكم هذه الإستراتيجية في تحديد السياسات الأمريكية المتعلقة بالصراع العربي "الإسرائيلي" وفي علاقة أمريكا بدول الطوق (مصر وسوريا والأردن ولبنان). تأمين مصادر الطاقة، وتتحكم هذه الإستراتيجية في تحديد السياسات الأمريكية المتعلقة بالنفط، وفي علاقات أمريكا بدول مجلس التعاون الخليجي والعراق وإيران. التحالف مع إيران، وتتحكم هذه الإستراتيجية في تحديد السياسات الأمريكية المتعلقة بالنزاعات الإيرانية العربية، وهي إستراتيجية طويلة المدى لم تتغير منذ أيام الشاه البائد حتى اليوم. ضمان حرية التجارة والالتزام باقتصاديات السوق الحر، مع سلامة تدفق البضائع والسلع دوليًّا عبر الممرات المائية العالمية والتي يوجد معظمها في منطقة الشرق الأوسط.
غير أن التغيير الثوري الكبير الذي وقع في منطقة الشرق الأوسط والذي أطاح بأقرب حلفاء أمريكا في المنطقة، وغيَّر كثيرًا من تكتيكات الاستراتيجية الأمريكية حيال المنطقة، فالعطب الذي أصاب الأنظمة العربية الموالية لأمريكا كان أكبر من محاولات الإصلاح وإعادة التشغيل، ومن ثم اتجه صانع القرار الأمريكي وراسم سياساتها الخارجية نحو بناء أنظمة إقليمية جديدة بفكر وهيكلة جديدين، يتجاوز بها عثرات وآثار فترة الربيع العربي، ومن أبرز ملامح هذا النظام الإقليمي الجديد:
1 ـــ الشراسة والعنف في مواجهة التيارات الإسلامية، حيث ستكون الأنظمة الجديدة أكثر شدة وراديكالية في مواجهة تيارات الإسلام الحركي، واعتماد القوة والحسم العسكري سبيلًا في حل المشاكل السياسية العالقة، أنظمة أكثر شراسة في العداء للإسلام والمسلمين بأصل بنية الأنظمة الوليدة، وليس مجرد تحجيم مدارس الصحوة الإسلامية المختلفة كما كان في السابق، ومن ذلك: إنشاء لجنة "الأمن الفكري" لمكافحة الإسلام (الإرهاب) في اجتماع وزراء الداخلية العرب في مراكش مارس 2014.
2 ـــ الاستجابة الواسعة لعمليات الاختراق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بحيث تضيع الخصوصية القطرية والهوية الوطنية تحت وطأة هذه الاختراق دون ممانعة أو اعتراض أو تضييق من هذه الأنظمة الجديدة.
3 ــــ الالتزام المطلق بسياسات النيو ليبرالية أو الليبرالية المتوحشة التي تتقلص فيها دور الحكومات والأنظمة لصالح اقتصاد السوق الحرة لأقصى درجة، ويقل الالتزام الرسمي بتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية للمواطنين، ولعل الخطوات التي أقدم عليها السيسي في مصر خير مثال على هذا الالتزام بالنيوليبرالية.
4 ـ الإبقاء على الدور المؤثر للأقليات العرقية والطائفية والسماح لها بالتمدد السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتكون ورقة ضغط على الأنظمة، ومنها ضمان تواصل إقليمي بين الأقليات والمعارضات السياسية، واستمرار التعاون الوثيق مع السيد الأمريكي، وربط الأنظمة الوليدة في شبكة أكثر تعقيدًا عما كان من قبل.
ومن ذلك: التمكين للحوثيين في اليمن، لإعادة "التوازن الطائفي" في المنطقة، بعد اهتزاز النصيرية في سوريا، وتواصل تواضروس مع حزب الكتائب اللبنانية وسمير جعجع، ومع سفير فرسان مالطة في مصر، والتنسيق مع بابا الكاثوليك، كل ذلك بصورة معلنة وليست سرية كما كان الأمر من قبل.
5 ــ دمج الجيوش في منظومة تغير مفاهيمي كاملة لعقائدية القتال لدى هذه الجيوش بحيث تصبح جزءًا من الجيش الأمريكي بصورة فعلية، تتحرك وفق خططه وأهدافه وأغراضه وإستراتيجياته وأوامر قادته، بحيث يصبح هدف الحرب على الإرهاب هو الأساس الذي تنبني عليه تحركات جيوش المنطقة مما سيؤدي لاحتمالية خلق حالة من الصراع المفتوح بين الجيوش والشعوب تحت مسمى الإرهاب.
أمريكا لا تريد الخير للمنطقة أبدًا، فلها مصالحها وأهدافها الخاصة في ضوء ثوابتها القومية واستراتيجياتها الرئيسة التي تتعارض تمامًا مع طموحات شعوب المنطقة، فهي تجيّشُ الجيوش وتحشد الحلفاء زاعمة أنها تريد نصرتنا ونجدتنا، والشعوب لم تطلب منها يومًا نصرة ولا نجدة، ما طلبت إلا أن تخلّي بينها وبين عدوها الأصلي، فأبت إلا أن تحجز بينهم وبينه وأن تحرمهم من امتلاك أدوات القتال والانتصار. بل أصرّت على أن تكون على الدوام خصمًا وشريكًا في العدوان بالحصار والحرمان. وها هي اليوم تدعي نجدة الأقليات ومحاربة الإرهاب والدفاع عن شعوب المنطقة، وتطلب من الجميع مشاركتها، ولكنها في واقع الأمر تضمر شرًّا مستطيرًا لشعوب المنطقة بأسرها.
شريف عبدالعزيز