سيناء، درة مصر المأزومة، وبوابتها الشرقية، وحدها الملتهب مع سرطان المنطقة وأخطبوطها "الكيان الصهيوني "، والجزء الجغرافي الأكثر أهمية من الناحية الإستراتيجية سواء السياسية والعسكرية، فهي تاريخيًّا وجغرافيًّا المعبر الأفروآسيوي الأهم، معبر للفتوحات الإسلامية، ومعبر للغزوات البيزنطية، ومعبر لمغامرات الإسكندر، وقبل ذلك كله معبر الأنبياء والرسل والدعوات، وأخيرًا معبر لكل الأطماع الصهيونية والإقليمية.
سيناء ومنذ دخول الصهاينة إليها سنة 67، ثم خروجهم الصوري منها بعد ذلك، وبسبب اتفاقية السلام المعيبة والمريبة مع الكيان الصهيوني وأصبحت جرحًا نازفًا وصداعًا مستمرًّا في رأس السلطة المصرية، فالاتفاقية قد أفقدت مصر السلطة الفعلية على هذه البقعة الخطيرة، وهذه الهشاشة السلطوية، والسيادة الشكلية جعلت سيناء مرتعًا لعدد من الأجهزة الاستخبارية والفصائل والتيارات المسلحة من الشرق والغرب، كما أنها ملئت سيناء بشتى أنواع المشاكل من مشكلات هوية ومشكلات ديموجرافية وتنموية، تشاركت جميعها في إنتاج أسوأ مكون سياسي وإداري وجغرافي وديمغرافي، بركان بمعنى الكلمة.
آخرًا وليس أخيرًا تشهد سيناء حادثًا مروعًا يروح ضحيته أكثر من ثلاثين عسكريًّا، ويجرح أكثر من أربعين في عملية نوعية من العيار الثقيل، لم يكشف النقاب حتى الآن عن تفاصيلها بحيث يمكن استنتاج من قام بها، بل إن الحادث نفسه يفرض كثيرًا من علامات الاستفهام عن أداء المخابرات العسكرية والأجهزة الأمنية، فالخروقات الأمنية فيه أكبر من أن نتجاوزها.
الحوادث والتفجيرات أمر سيناوي اعتاد عليه الجميع هناك منذ عام 2004 الذي كان عامًا مفصليًّا في حياة أهل سيناء وما حولها، حين وقعت بعض التفجيرات في المناطق السياحية (شرم الشيخ ) فإن مدرسة "العادلي" في الجهاز الأمني ساقت الآلاف من أبناء سيناء الأبرياء إلى السجون والمعتقلات، وتطبيقًا للعقلية الأمنية الشهيرة "الجاني لن يتكلم إلا إذا تألم" عاملتهم بصورة مهينة ووحشية لإجبارهم على معرفة الجناة، متجاهلة أن هؤلاء ينتمون إلى قبائل وعشائر لا سلطان حقيقي للدولة عليها، الأمر الذي كان له دوره الرئيس في تنامي مشاعر النقمة على السلطة، واختزان مشاعر الثأر والانتقام منها.
وبسبب العقلية الأمنية المقيتة تحولت سيناء إلى حالة أمنية شديدة الالتهاب والالتباس تولى كبرها جهاز أمن الدولة (سابقا)، وفسدت علاقة السلطة بالمجتمع السيناوي، حيث رأى الجميع هناك وجهًا فظًّا وغليظًا للدولة المصرية لم يألفوه، فنفروا منه واشتبكوا معه بطريقتهم. مما أدى إلى تراجع سلطة الدولة التي تم اختصارها في جهاز واحد هو أمن الدولة، وفي المقابل تنامت سلطة القبيلة التي أصبحت هي الحامية لأبنائها.
وقد بدا هذا الأمر جليًّا خلال العامين الأخيرين بوجه أخص، حيث حفلت سيناء بالحوادث التي بدا الاحتكام إلى السلاح فيها واضحًا، كما ظهرت في الأفق مؤشرات الاشتباك مع السلطة وتحديها، وفي المقابل لم تدخر السلطة وسعًا في تمديد نطاق خصوم المجتمع السيناوي، فقد أعلن المؤقت منصور في 19 أغسطس 2013 أن شمال سيناء منطقة عسكرية لتسهيل عمل القوات المسلحة في التعامل بحرية مع أهلها، وبالتالي أصبحت القوات المسلحة في نظر المجتمع السيناوي لا تختلف كثيرًا عن الداخلية التي عانوا منها الويلات أيام المخلوع مبارك، وهذا الإجراء من جانب سلطة الانقلاب كان من أخطر الإجراءات إذ أصبح المجتمع السيناوي القبلي المعتز بحريته في حالة عداء مفتوح وصريح مع أهم المؤسسات الأمنية في البلاد، مما عمّق من مشاكل سيناء وأهلها، وضخّم ملف أزماتها بصورة غير مسبوقة.
سيناء منذ سنة 67 وهي حالة جغرافية واجتماعية مجهولة بقدر كبير للمجتمع المصري بكل مكوناته من أعلى هرمه ممثلًا في سلطته التنفيذية إلى طلبة المدارس الذين لم تعرفهم المناهج الدراسية شيئًا عن هذه البقعة الغالية والخطيرة من بلادهم، ومنذ كامب دايفيد وسيناء تحت الحماية الأمريكية والصهيونية الفعلية يرتع فيها العديد من الجواسيس والخونة ووكالات المخابرات الإقليمية والدولية.
فالاتفاقية حددت شكل وعدد وتسليح ووجود القوات المصرية في سيناء!! وأخلت معظمها تقريبًا من السلطة المصرية، وكانت الترتيبات الأمنية تتم بين الطرفين الصهيوني والأمريكي ويتم إبلاغ المصريين بها، وكان يتم التنسيق الأمني حتى في المسارات البحرية باتفاقات أمريكية "إسرائيلية" متخطية الدولة المصرية بعد أن سلمت مفاتيحها إلى الولايات المتحدة أيام المخلوع مبارك، مقايضة بأمن النظام الذي لم يحظ لا بالأمن ولا بالكرامة وسقط غير مأسوف عليه.
وكان طبيعيًّا أن تنمو هناك بؤر التهريب والإجرام، إضافة إلى الجماعات التي توصف بأنها سلفية أو جهادية ولا تعلم الدولة المصرية عنها شيئًا!
هذه الضبابية المعلوماتية والجهل الواسع بالحالة السيناوية جعل جلّ المتكلمين عن الأزمات والحوادث هناك يصفون الوضع على غير حقيقته ويسارعون في كيل الاتهامات لأطراف بعيدة كل البعد عن واقع الأزمة، وهو ما بدا للعيان فور وقوع الحادث الأخيرة.
فالخبراء الأمنيون والإستراتيجيون العسكريون والمحللون السياسيون وكلهم من مناصري الانقلاب العسكري، سارعوا بطرح أفكار فاشية نازية من عينة إخلاء الشريط الحدودي، وطرد السكان، وضرب الجميع بما فيهم الأبرياء، وربطوا ربطًا عجيبًا بين غزة وسيناء وحماس والجناة، ولا أدري أجهل هذا أم تعمد لخلط الأوراق وتشبيك المسارات، للتعمية عن أصل الداء وأس البلاء؟!
فقد طالب لواء المخابرات السابق، سامح سيف اليزل، بإخلاء الشريط الحدودي بين مصر وقطاع غزة من السكان تمامًا وبشكل فوري، بعمق 5 إلى 7 كيلو مترات، مع تعويض هؤلاء السكان تعويضًا جيدًا مثلما تم إخلاء مدن القناة أثناء حرب 1967، وفي السياق ذاته، دعت أربعة أحزاب في بيان مشترك أصدرته السبت، الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى إعلان شمال سيناء "منطقة حرب"، مطالبة بتهجير أبناء المدن والقرى القريبة من غزة، إلى مناطق أخرى، بهدف تطهير سيناء من أية تنظيمات مسلحة.
في حين طالب الإعلامي المثير للجدل أحمد موسى بدك سيناء بالطائرات وذبح جميع أهلها!! بل وطالب بقتل كل من يخرج في مظاهرات أو يعترض على حكم السيسي!!
لا نستطيع أن نفصل الحاصل في سيناء عن مجمل الأجواء المخيمة على مصر. فالتجاذب والصراع السياسي الحاصل في مصر بعد الانقلاب العسكري لم يسمح بتوفير رؤية وطنية واضحة للتعامل مع الحدث.
بل إن النخب السياسية والأذرع الإعلامية وظفت ما جرى من أجل كسب المعركة السياسية التي تستعد لخوضها في الانتخابات البرلمانية. بحيث ما عادت الفكرة في كيفية البحث عن مخرج للأزمات السيناوية، بقدر البحث عن كيفية توظيف الحادث لتدعيم موقف الانقلاب المتداعي داخليًّا وخارجيًّا باسم "محاربة الإرهاب" فالسلطة الحالية تعاني من أزمات كثيرة وتحتاج إلى روافع ثقلية لتتجاوز قتامه الواقع، ولا يوجد أنسب من رافعة "محاربة الإرهاب" لاستنفار الجميع مستخدمة نظرية الصدمة.
صاحب نظرية الصدمة هو "ميلتون فريدمان" المثقف الأكثر أهمية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وليس فقط الاقتصادي الأكثر أهمية، حيث كان له تأثير هائل في السياسة الاقتصادية الدولية ووصف بأنه كارل ماركس الرأسمالية. عمل كمستشار لرئيسة الوزراء البريطانية "مارغريت تاتشر"، وللرئيسين الأمريكيين الأسبقين "ريتشارد نيكسون" و"رونالد ريجان" وكذلك عمل مستشارا لإدارة بوش الصغير.
"ميلتون فريدمان" درس ودرب أيضًا وزير الدفاع الأمريكي السابق المجرم رامسفيلد في أوائل مسيرته المهنية وجورج شولتز وزير خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس رونالد ريجان، وأعطى أيضًا النصائح للديكتاتور التشيلي بينوشية بعد الإطاحة بالرئيس سلفادور أيندي في بداية العقد السابع من القرن الماضي، وللحزب الشيوعي الصيني في فترة الإصلاحات الاقتصادية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين.
فريدمان هو صاحب النظرية الشهيرة "العلاج بالصدمة" أو رأسمالية الكوارث، ويقوم مذهب رأسمالية الكوارث على استغلال كارثة، سواء كانت انقلابًا، أم هجومًا إرهابيًّا، أم انهيارًا للسوق، أم حربًا، أم تسونامي، أم إعصارًا، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية. فالكارثة تضع جميع السكان في حال من الصدمة الجماعية، وتخدم القنابل المتساقطة والعنف المتفجر والرياح العاتية، كلها، لتطويع مجمل المجتمعات.
أحداث سيناء تأتي في هذا السياق، فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مصر آخذة في التداعي والانهيار بصورة متسارعة، والأزمات الداخلية والخارجية تتفاقم يومًا بعد يوم على سلطة ما بعد الانقلاب، والضغوط الخارجية أخذت منحنى جديدًا بعد صدور التقرير الإنجليزي الذي برأ ساحة الإخوان من تهمة الإرهاب، وتقارير منظمات العفو الدولية وهيومين رايت وواتش والشفافية الدولية وغيرها من المنظمات عن السلطة الديكتاتورية، والمطالب الأمريكية والصهيونية والخليجية بمزيد من التدخل العسكري في ليبيا والعراق، كل هذه الضغوط تفقد السلطة القائمة مزيدًا من الشعبية المتداعية أصلًا من جراء الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
وبالتالي فالسلطة في حاجة للهروب إلى الأمام باستغلال عمل كبير كتفجيرات الأمس للتغطية على فشلها الذريع في إدارة جميع ملفات الدولة بما في ذلك ملفها الأمني الملتهب، وإعادة لملمة الأوضاع تحت سيطرتها بإجراءات استثنائية قد نرى أثرها في الأيام القليلة القادمة.
إن مصر اليوم تدفع ثمن سنوات الفشل المصري منذ كامب دايفيد وما بعدها، حيث كانت دائمًا ما تستخدم الحلول الأمنية للمشكلات السياسية، وخاصة في أيام مبارك الذي كان يميل دائمًا باتجاه الولايات المتحدة وأصدقائه الصهاينة في التعامل مع أبناء سيناء وكذلك مع أبناء غزة، مما ضاعف من المشكلات والمعاناة والمظالم التي تراكمت لعقود بين ضفتي سيناء التي لا يبدو أن مشاكلها وأزماتها ستنتهي أبدًا.
شريف عبد العزيز