السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سؤال الفتوى:
ما هو حكم من يستهزئ بمن ترتدي الحجاب الشرعي ؛ ويصفها : بأنها عفريتة أو أنها خيمة متحركة ، أو وصف المحافظين على السنن بأنهم متطرفين وغير ذلك من ألفاظ الاستهزاء ، وأما نراه في الافلام من الاستهزاء بأهل العلم والعلماء والهجوم عليهم ؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الهجوم على الإسلام ليس وليد اليوم ، بل منذ ظهوره في عصر الجاهلية الأولى ، وكل عصر يختلف فيه وسائل الهجوم عليه وعلى أهله ، وكلما اشتدت الجاهلية والإلحاد والعِلمانية (بكسر العين) ، وسكت أهل الحق عن إظهار الحق وتوصيله للناس بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ، زاد الهجوم على هذا الدين في صور مقالات ، أو مسلسلات وأفلام ، أو من دعاة الفن والفكر بدعوة التحرر والنقض وحرية الرأي ، وما هو إلا تحرر من كل ما يوافق الفطرة السليمة ، وهؤلاء إما تربوا على الانحطاط والانحراف والإباحية الفكرية ، أو أصحاب أجندات خاصة من قبل أعداء الإسلام للطعن في ثوابت هذا الدين وفروعه ، وهذه سنة كونية، أن يكون هناك صراع بين أهل الحق وأهل الباطل ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أما بالنسبة لمن يستهزئ بالدين وأهله ، فهناك تفصيل في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة وهو التفريقَ بين الحكم على الاعتقاد ، أو القول ، أو الفعل بأنَّه كُفر أو شرك ، وبين الحكم على المسلِم المعيَّن الذي اعتقد اعتقادًا كفريًّا ، أو فَعَل أمرًا مُكَفِّرًا، أو قال قولاً كُفْريًّا.فإنَّ الحكم على القول أو الفعل بأنه كُفْر، متعلِّقٌ ببيان الحكم الشرعي المطلَق ، أمَّا الحكم على الشخص المعيَّن إذا اعتقد ، أو قال، أو فعل أمرًا كفريًّا مُخْرِجًا منَ الملَّة؛ كأن ينكرَ أمرًا معلومًا منَ الدِّين بالضرورة، وكأن يسُبَّ الله - تعالى - أو يسبَّ دين الإسلام ، فإنه لا بُدَّ عند الحكم عليه منَ التَّبَيُّن عن حال هذا الشخص المعيَّن في ذلك، وذلك بمعرفةِ : هل توفَّرتْ فيه جميعُ شروط الحكم عليه بالكفر أو لا ؟وهلِ انتفَتْ عنه جميع موانع الحكم عليه بالكفر أو لا؟ فإنْ توفَّرتْ فيه جميع شروط التكفير ، وانتفتْ عنه جميعُ موانعِه ؛ حُكِم بكفْرِه، وإن لم يتوفَّر فيه شرطٌ واحد أو أكثر مِن شروط الحكم عليه بالكفر ، أو وُجِد لديه مانع أو أكثر من موانع التكفير ؛ لم يُحْكَم بكفرِه.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة : " إنَّ التكفير له شروط وموانعُ، قد تنتفي في حقِّ المعيَّن، وإن تكفير المطلَق لا يستلزم تكفيرَ المُعَيَّن ، إلاَّ إذا وُجِدَتِ الشروط ، وانتفتِ الموانع ، يُبَيِّن هذا أنَّ الإمام أحمدَ وعامَّة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات - أي: مَن قال أو فعل كذا، فقد كفر - لم يُكَفِّروا أكثر مَن تَكَلَّم بهذا الكلام بعينِه.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس
ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء،
فقال رجل : كذبت ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن ،فقال عبد الله بن عمر : وأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة وهو يقول :
يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) التوبة : 65
(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ * إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) التوبة 65-66
فجعل الاستهزاء بالمؤمنين استهزاء بالله وآياته ورسوله.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : لَا يَخْلُو أَنْ يَكُون مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا أَوْ هَزْلًا , وَهُوَ كَيْفَمَا كَانَ كُفْر , فَإِنَّ الْهَزْل بِالْكُفْرِ كُفْر لَا خِلَاف فِيهِ بَيْن الْأُمَّة . فَإِنَّ التَّحْقِيق أَخُو الْعِلْم وَالْحَقّ , وَالْهَزْل أَخُو الْبَاطِل وَالْجَهْل . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : اُنْظُرْ إِلَى قَوْله : " أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُون مِنْ الْجَاهِلِينَ
:ثالثا
أما ما يحدث الآن في ديار الإسلام ، من الاستهزاء بالدين والتشكيك في الثوابت والتهكم من الشرائع والأحكام ، والنيل من الصحابة الكرام والأئمة الأعلام ، ومسخ الدين والطعن في سنة سيد المرسلين ، والإلحاد على رؤوس الاشهاد ، منكر عظيم يجب على " ولي الأمر " تغيره والتصدي له ومعاقبة من تسول له نفسه بأن يتجرءا على هذا الدين. وإن لم يفعل ذلك فهو آثم وشريك ، ويعتبر سبب من أسباب عزله وناقض من نواقض بيعته ، لأن من اختصاصاته ، حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة ، وحماية بيضة الإسلام ، وإقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك .
فعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) ؛ رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: إن إنكار المنكر واجب على كل مسلم قادر ، وهو فرض على الكفاية ، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره ، والقدرة: هي السلطان، فالسلطان أقدر من غيره ، وعليه من الوجوب ما ليس على غيره ، فان مناط الوجوب هو القدرة ، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته ، واستدل بقوله تعالى﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾.
فالنبي صلى الله عليه وسلم حث العلماء والسلاطين خاصة والناس عامة على التدرج في النهي عن المنكر من الأفضل إلى الأقل فضيلة حسب الاستطاعة، حتى وصل إلى أضعفها وهو الإنكار القلبي الذي لا يغير من المنكر شيئاً، وهذا يستطيعه كل أحد فلذا يجب على الجميع.
فأما القلب فيجب بكل حال إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (وذلك أضعف الإيمان) وقال صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذلك من الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) وقيل لابن مسعود من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا).
هذا. والله أعلى وأعلم