الشـــــــرح :
فتضمن هذا الحديث العظيم أمورا من المعرفة والتوحيد والعبودية منها أن الداعي بهذا الدعاء صدر سؤاله بقوله : "إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ"
وهذا يتناول مَن فوقه من آبائه وأمهاته الى أبويه آدم وحواء. وفي ذلك تملق له واستخذاء (الخضوع والإنكسار) بين يديه واعتراف بأنه مملوكه، وآباؤه مماليكه، وأن العبد ليس له غير باب سيده وفضله وإحسانه، وأن سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك، بل يضيع أعظم ضيعة . فتَحتَ هذا الاعتراف: إني لا غنى بي عنك طرفة عين، وليس لى مَن أعوذ به وألوذ به غير سيدي الذي أنا عبده.
وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبر مأمور منهى إنما يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه. فليس هذا شأن العبد بل شأن الملوك والأحرار، وأما العبيد فتعرفهم على محض العبودية ،
فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون اليه سبحانه في قوله : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الحجر: 42
وقولِهِ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} الفرقان: 63. ومن عداهم عبيد القهر والربوبية، فاضافتهم اليه كاضافة سائر البيوت الى ملكه، واضافة أولئك كاضافة البيت الحرام اليه واضافة ناقته اليه وداره التي هي الجنة اليه واضافة عبودية رسوله اليه بقوله {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} البقرة: 23 ،
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} الإسراء: 1 ، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} الجن: 19
وفي التحقيق بمعنى قوله إني عبدك :
التزام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة وامتثال أمر سيده واجتناب نهيه ودوام الافتقار اليه واللجوء إليه والاستعانة به والتوكل عليه وعياذ العبد به ولياذه به. وألا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفا ورجاء. وفيه أيضا إني عبد من جميع الوجوه صغيرا وكبيرا حيا وميتا ومطيعا وعاصيا معافى ومبتلي بالروح والقلب واللسان والجوارح. وفيه أيضا أن مالي ونفسي ملك لك فإن العبد وما يملك لسيده وفيه أيضا أنك أنت الذي مننت علي بكل ماأنا فيه من نعمة، فذلك كله من إنعامك على عبدك. وفيه أيضا أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك كما لا يتصرف العبد إلا باذن سيده، وإني لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
فان صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة.
وناصية العبد بيد ربه، وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه، ليس إلى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له تحت تصرفه وقهره، بل الأمر فوق ذلك.
ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء، لم يخفهم بعد ذلك وَلَم يرجُهُم ولم يُنزلهم منزلة المالكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم والمدبر لهم غيرهم. فمن شهد نفسه بهذا المشهد، صار فقره وضرورته إلى ربه وصفا لازما له، ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يُعلّق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته. ولذا قال هود لقومه:
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} هود: 56
أي مع كونه مالكا قاهرا متصرفا في عباده، نواصيهم بيده، فهو على صراط مستقيم، وهو العدل الذي يتصرف به فيهم. فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وقضائه وقدره وأمره ونهيه وثوابه وعقابه، فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله ومفسدة، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله وحكمته.
وفرق بين الحكم والقضاء :
إذ جعل المضاء للحكم والعدل للقضاء. فإنًّ حكمه سبحانه يتناول حكمه الدينى الشرعى، وحكمه الكونى القدرى. والنوعان نافذان في العبد إن ماضيان فيه وهو مقهور تحت الحكمين قد مضيا فيه ونفذا فيه شاء أم أبى. لكن الحكم الكونى لا يمكنه مخالفته، واما الديني الشرعى فقد يخالفه.
ولما كان القضاء هو الإتمام والإكمال وذلك إنما يكون بعد مضيه ونفوذه، قال عدل في قضاؤك أي: الحكم الذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه.
وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه. فإن كان حكما دينيا فهو ماض فى العبد، وإن كان كونيا فان نفذه سبحانه مضى فيه وان لم ينفذه اندفع عنه. فهو سبحانه يقضى ما يقضى به، وغيره قد يقضي بقضاء وبقدر أمرا ولايستطيع تنفيذه، وهو سبحانه يقضي ويمضي، فله القضاء والامضاء.
وقوله : عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ
يتضمن جميع أقضيته فى عبده، من كل الوجوه من صحة وسقم وغني وفقر ولذة وألم وحياة وموت وعقوبة وتجاوز وغير ذلك.
قال تعالي {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الشورى: 30 وقالَ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)} الشورى: 48.
فكل ما يقضى علي العبد فهو عدل فيه.ومن أسمائه الحسني العدل الذي كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق، وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأزاح العلل، ومكَّن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول -وهذا عدله- ووفّق من شاء بمزيد عناية، فهذا فضله. وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه أن يوفقه فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله.
وهذا نوعان:
1- ما يكون جزاء منه للعبد على إعراضه عنه وإيثار عدوه فى الطاعة والموافقة عليه وتناسى ذكره وشكره فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه.
2- ألا يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية ولا يشكره عليه ولا يثنى عليه بها ولا يحبه فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محله.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} الأنعام: 53،
وقالَ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} الأنفال: 23. فاذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية، كان ذلك محض العدل.
أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ.... الى آخره
وهذا توسل إلى الله بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم. وهذه أحب الوسائل إليه، فانها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هى مدلول اسمائه.
وقوله : أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي
الربيع المطر الذي يحيى الأرض، شبه القرآن به لحياة القلوب به. وكذلك شبهه الله بالمطر، وجمع بين الماء الذى تحصل به الحياة والنور الذى تحصل به الإضاءة والإشراق.
كما جمع بينهما سبحانه فى قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} الرعد: 17،
وفي قولِهِ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} البقرة: 17، ثمَّ قالَ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} البقرة: 19
وفي قولِهِ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} الآياتِ النور: 35. ثمَّ قالَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} الآيَةَ النور: 43.
فتضمن الدعاء أن يحيي قلبه بربيع القرآن وان ينور به صدره، فتجتمع له الحياة والنور. قال تعالى:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].
ولما كان الصدر أوسع من القلب، كان النور الحاصل له يسري منه إلى القلب لأنه قد حصل لما هو أوسع منه. ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب، تسري الحياة منه إلي الصدر ثم إلى الجوارح، سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها. ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته، سأل أن يكون ذهابها بالقرآن، فإنها أحرى ألا تعود. وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فانها تعود بذهاب ذلك.
والمكروه الوارد على القلب. إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم.
هذا والله أعلم وصلي وسلم على محمد