|
|
|
|
|
|
|
المستوى :
|
|
|
|
المنتدى :
الحديث الشريف وعلومه
سيد الإستغفار في شرع العزيز الغفار
عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي سيد الاستغفار أن تقول قال رسول الله : "سيِّدُ الاسْتِغْفار أَنْ يقُول الْعبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي ، لا إِلَه إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَني وأَنَا عَبْدُكَ ، وأَنَا على عهْدِكَ ووعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما صنَعْتُ ، أَبوءُ لَكَ بِنِعْمتِكَ علَيَ ، وأَبُوءُ بذَنْبي فَاغْفِرْ لي ، فَإِنَّهُ لا يغْفِرُ الذُّنُوبِ إِلاَّ أَنْتَ " ، قال : "منْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا ، فَمـاتَ مِنْ يوْمِهِ قَبْل أَنْ يُمْسِيَ ، فَهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ ، ومَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وهُو مُوقِنٌ بها فَمَاتَ قَبل أَنْ يُصْبِح ، فهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ " رواه البخاري .
ويجب أن نبحث عمن سماه سيد الاستغفار وذلك تحرزا من الوقوع في البدع , فالشيطان أحرص ما يكون على إضلال الناس .
ومعنى سيد الاستغفار أي أنه يسود ويتقدم كل صيغ الاستغفار الأخرى في الفضيلة والرتبة , وهذا مقرر من كلام من لا ينطق عن الهوى .
والمتأمل فيه يجد أن هذا الدعاء قد أشتمل على التوبة والتذلل والإنابة لله سبحانه وتعالى :
قوله ( سيد الاستغفار )
قال الطيبي : لما كان هذا الدعاء جامعا لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد , وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج , ويرجع إليه في الأمور .
قوله ( أن يقول )
أي العبد , وثبت في رواية أحمد والنسائي " إن سيد الاستغفار أن يقول العبد " وللترمذي من رواية عثمان بن ربيعة عن شداد " ألا أدلك على سيد الاستغفار " وفي حديث جابر عند النسائي " تعلموا سيد الاستغفار " .
قوله ( لا إله إلا أنت خلقتني )
كذا في نسخة معتمدة بتكرير أنت , وسقطت الثانية من معظم الروايات , ووقع عند الطبراني من حديث أبي أمامة "من قال حين يصبح : اللهم لك الحمد لا إله إلا أنت" والباقي نحو حديث شداد وزاد فيه "آمنت لك مخلصا لك ديني" .
قوله ( وأنا عبدك )
قال الطيبي : يجوز أن تكون مؤكدة , ويجوز أن تكون مقدرة , أي أنا عابد لك , ويؤيده عطف قوله "وأنا على عهدك" .
قوله : ( وأنا على عهدك )
سقطت الواو في رواية النسائي , قال الخطابي : يريد أنا على ما عهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك . ويحتمل أن يريد أنا مقيم على ما عهدت إلي من أمرك ومتمسك به ومنتجز وعدك في المثوبة والأجر . واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى . وقال ابن بطال : قوله " وأنا على عهدك ووعدك " يريد العهد الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية . وبالوعد ما قال على لسان نبيه : " إن من مات لا يشرك بالله شيئا وأدى ما افترض عليه أن يدخله الجنة " .
قلت : وقوله وأدى ما افترض عليه زيادة ليست بشرط في هذا المقام لأنه جعل المراد بالعهد الميثاق المأخوذ في عالم الذر وهو التوحيد خاصة , فالوعد هو إدخال من مات على ذلك الجنة .
قال وفي قوله " ما استطعت "
إعلام لأمته أن أحدا لا يقدر على الإتيان بجميع ما يجب عليه لله . ولا الوفاء بكمال الطاعات والشكر على النعم , فرفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم . وقال الطيبي : يحتمل أن يراد بالعهد والوعد ما في الآية المذكورة , كذا قال : والتفريق بين العهد والوعد أوضح .
قوله ( أبوء لك بنعمتك علي )
سقط لفظ لك من رواية النسائي , وأبوء بالموحدة والهمز ممدود معناه أعترف . ووقع في رواية عثمان بن ربيعة عن شداد " وأعترف بذنوبي " وأصله البواء ومعناه اللزوم , ومنه بوأه الله منزلا إذا أسكنه فكأنه ألزمه به .
قوله ( وأبوء لك بذنبي )
أي أعترف أيضا , وقيل معناه أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عني . وقال الطيبي : اعترف أولا بأنه أنعم عليه , ولم يقيده لأنه يشمل أنواع الإنعام , ثم اعترف بالتقصير وأنه لم يقم بأداء شكرها , ثم بالغ فعده ذنبا مبالغة في التقصير وهضم النفس . قلت : ويحتمل أن يكون قوله " أبوء لك بذنبي " أعترف بوقوع الذنب مطلقا ليصح الاستغفار منه , لا أنه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنبا.
قوله : ( فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )
يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له , وقد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل وفيه " العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه " .
قوله : ( من قالها موقنا بها )
أي مخلصا من قلبه مصدقا بثوابها , وقال الداودي يحتمل أن يكون هذا من قوله إن الحسنات يذهبن السيئات ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء وغيره ; لأنه بشر بالثواب ثم بشر بأفضل منه فثبت الأول وما زيد عليه , وليس يبشر بالشيء ثم يبشر بأقل منه مع ارتفاع الأول , ويحتمل أن يكون ذلك ناسخا وأن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يغفر له به ذنوبه , أو يكون ما فعله من الوضوء وغيره لم ينتقل منه بوجه ما , والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء . كذا حكاه ابن التين عنه , وبعضه يحتاج إلى تأمل .
قوله : ( ومن قالها من النهار )
في رواية النسائي " فإن قالها حين يصبح " وفي رواية عثمان بن ربيعة " لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح , أو حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسي " .
قوله : ( فهو من أهل الجنة )
في رواية النسائي " دخل الجنة " وفي رواية عثمان بن ربيعة " إلا وجبت له الجنة " قال ابن أبي جمرة : جمع في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أنه يسمى سيد الاستغفار , ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية , والاعتراف بأنه الخالق , والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه , والرجاء بما وعده به , والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه , وإضافة النعماء إلى موجدها , وإضافة الذنب إلى نفسه , ورغبته في المغفرة , واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو , وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة , فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى . وهذا القدر الذي يكنى عنه بالحقيقة . فلو اتفق أن العبد خالف حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة عليه ببيان المخالفة لم يبق إلا أحد أمرين : إما العقوبة بمقتضى العدل أو العفو بمقتضى الفضل , انتهى ملخصا . أيضا : من شروط الاستغفار صحة النية , والتوجه والأدب , فلو أن أحدا حصل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد لكن أخل بالشروط هل يستويان ؟ فالجواب أن الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة , والله أعلم .
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - : في قوله عليه السلام : " سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت" . قد اشتمل هذا الحديث من المعارف الجليلة ما استحق لأجلها أن يكون سيّد الاستغفار ، فإنه صدره باعتراف العبد بربوبية الله ، ثم ثناها بتوحيد الإلهية بقوله : (( لا إله إلا أنت )). ثم ذكر اعترافه بأن الله هو الذي خلقه وأوجده ولم يكن شيئا ، فهو حقيق بأن يتولى تمام الإحسان إليه بمغفرة ذنوبه ، كما ابتدأ الإحسان إليه بخلقه .
ثم قال : " وأنا عبدك " اعترف له بالعبودية.
فإن الله تعالى خلق ابن آدم لنفسه ولعبادته ، كما جاء في بعض الآثار : (يَقُوْلُ الْلَّهُ تَعَالَىْ : ابْنِ آَدَمَ ! خَلَقْتُكَ لِنَفْسِيْ ، وَخَلَقْتَ كُلِّ شَيْءٍ لِأَجْلِكِ ، فَبِحَقِّي عَلَيْكَ لَا تَشْتَغِلَ بِمَا خَلَقْتُهُ لَكَ عَمَّا خَلَقْتُكَ لَهُ). وفي أثر آخر : (ابْنِ آَدَمَ ! خَلَقْتُكَ لِعِبَادَتِيْ فَلَا تَلْعَبُ ، وَتَكَفَّلْتَ لَكِ بِرِزْقِكَ فَلَا تُتْعِبُ. ابْنِ آَدَمَ ! اطْلُبْنِي تَجِدْنِيْ ، فَإِنَّ وَجَدْتَنِيْ وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَإِنْ فُتَّكَ فَاتَكَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَأَنَا أُحِبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). فالعبد إذا خرج عما خلقه الله له من طاعته ومعرفته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه ، فقد أبق من سيده ، فإذا تاب إليه ورجع إليه فقد راجع ما يحبه الله منه ، فيفرح الله بهذه المراجعة. ولهذا قال يخبر عن الله : (لِلَّهِ أَشَدُّ فَرَحا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ وَاجِدٍ رَاحِلَتِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ بَعْدَ يَأْسُهُ مِنْهَا فِيْ الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةُ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِيْ وَفَّقَهُ لَهَا ، وَهُوَ الَّذِيْ رَدَّهَا إِلَيْهِ). وهذا غاية ما يكون من الفضل والإحسان ، وحقيق بمن هذا شأنه أن لا يكون شيء أحب إلى العبد منه.
ثم قال : " وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت" فالله سبحانه وتعالى عهد إلى عباده عهدا أمرهم فيه ونهاهم ، ووعدهم على وفائهم بعهده أن يثيبهم بأعلى المثوبات ، فالعبد يسير بين قيامه بعهد الله إليه وتصديقه بوعده. أي أنا مقيم على عهدك مصدق بوعدك. وهذا المعنى قد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، كقوله : (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). والفعل إيمانا هو العهد الذي عهده إلى عباده ، والاحتساب هو رجاؤه ثواب الله له على ذلك ، وهذا لا يليق إلا مع التصديق بوعده. وقوله (إيمانا واحتسابا) منصوب على المفعول له ، إنما يحمله على ذلك إيمانه بأن الله شرع ذلك وأوجبه ورضيه وأمر به ، واحتسابه ثوابه عند الله ، أي يفعله خالصا يرجو ثوابه.
وقوله : " ما استطعت " أي إنما أقوم بذلك بحسب استطاعتي ، لا بحسب ما ينبغي لك وتستحقه علي. وفيه دليل على إثبات قوة العبد واستطاعته ، وأنه غير مجبور على ذلك ، بل له استطاعة هي مناط الأمر والنهي والثواب والعقاب. ففيه رد على القدرية المجبرة الذين يقولون : إن العبد لا قدرة له ولا استطاعة ، ولا فعل له البتة ، وإنما يعاقبه الله على فعله هو ، لا على فعل العبد. وفيه رد على طوائف المجوسية وغيرهم.
ثم قال : " أعوذ بك من شر ما صنعت " فاستعاذته بالله الالتجاء إليه والتحصن به والهروب إليه من المستعاذ منه ، كما يتحصن الهارب من العدو بالحصن الذي ينجيه منه. وفيه إثبات فعل العبد وكسبه ، وأن الشر مضاف إلى فعله هو ، لا إلى ربه ، فقال : (أعوذ بك من شر ما صنعت). فالشر إنما هو من العبد ، وأما الرب فله الأسماء الحسنى ، وكل أوصافه صفات كمال ، وكل أفعاله حكمة ومصلحة. ويؤيد هذا قوله عليه السلام : (والشر ليس إليك) في الحديث الذي رواه مسلم في دعاء الاستفتاح.
ثم قال : " أبوء لك بنعمتك علي" أي أعترف بأمر كذا ، أي أقر به ، أي فأنا معترف لك بإنعامك علي ، وإني أنا المذنب ، فمنك الإحسان ومني الإساءة. فأنا أحمدك على نعمتك ، وأنت أهل لأن تحمد وأستغفرك لذنوبي. ولذا قال بعض العارفين : ينبغي للعبد أن تكون أنفاسه كلها نفسين : نفسا يحمد فيه ربه ، ونفسا يستغفره من ذنبه. ومن هذا حكاية الحسن مع الشاب الذي كان يجلس في المسجد وحده ولا يجلس إليه ، فمر به يوما فقال : ما بالك لا تجالسنا ؟ فقال : إني أصبح بين نعمة من الله تستوجب علي حمدا ، وبين ذنب مني يستوجب استغفارا ، فأنا مشغول بحمده واستغفاره عن مجالستك. فقال : أنت أفقه عندي من الحسن. ومتى شهد العبد هذين الأمرين استقامت له العبودية ، وترقى في درجات المعرفة والإيمان ، وتصاغرت إليه نفسه ، وتواضع لربه ، وهذا هو كمال العبودية ، وبه يبرأ من العجب والكبر وزينة العمل.
والله الموفق الهادي ، والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل
|