الإسلام عقيدة وشريعة، وعقيدة الإسلام خاصة بالمؤمنين به، لا يجوز فرضها على غير المسلمين من المواطنين.
وفي الشريعة الإسلامية شعائر وعبادات هي خاصة بالمسلمين، لا يجوز فرضها على غير المسلمين، لكن في الشريعة الإسلامية جانب آخر هو فقه المعاملات الذي ليس له بديل ولا نظير في المسيحية، التي تركت ما لقيصر لقيصر، ووقفت عند ما لله - خلاص الروح ومملكة السماء.
ففقه المعاملات الإسلامي هو قانون الأمة - على إختلاف عقائدها الدينية - وهو مظهر من مظاهر إبداعها القانوني، وإستقلالها في القضاء والتشريع، وهذا الفقه الإسلامي هو قانون وضعه فقهاء المسلمين- بالإحتهاد - في إطار مبادىء الكتاب والسنة مستجيبين بذلك لفقه الواقع المتطور دائما وأبدا، فهو باب من أبواب الشريعة متميز عن عقائد الإسلام والعبادات الإسلامية.
ولقد كان تجديد هذا الفقه الإسلامي - فقه المعاملات - ليكون القانون الموحد للأمة واحدا من أحلام الفقيه الفذ والقاضي العادل الدكتور عبد الرزاق السنهوري (1313 - 1391هـ - 1895-1971م) وفي ذلك كتب يقول: "إن الإسلام دين ودولة، الدولة لابد لها من فقه، ولقد كان فقهاء الشريعة الإسلامية يدركون إداركا تاما الحد الفاصل بين الفقه الذي وضع لتعامل الناس وتنظيم علاقاتهم ببعضهم البعض، وبين الدين - الذي هو أمر يتصل بعلاقة الانسان بربه - ولذلك رأينا هولاء الفقهاء يميزون في الشىء أن يكون صحيحا قضاءً، مكروهاً ديانةً.
إن الفقه الإسلامي فقه محصن، لا تقل عراقته في ذلك عن عراقة الفقه الروماني، وهو لا يقل عنه في دقة المنطق وفي متانة الصياغة، وفي القابلية للتطور، وهو مثله صالح أن يكون قانونا عالميا، بل لقد كان بالفعل قانونا عالميا يوم امتدت دولة الإسلام من أقاصي البلاد الآسيوية إلى ضفاف المحيط الأطلسي.
وكما أنبت القانون الروماني، بعد أن أحييت دراسته في العصور الوسطى، القوانين اللاتينية والقوانين الجرمانية الحديثة، وهي القوانين التي تعيش أوربا في ظلها، كذلك الفقه الإسلامي، إذا أحييت دراسته وانفتح فيه باب الإجتهاد جدير أن ينبت قانونا حديثا لا يقل في الجدة وفي مسايرة العصر عن القوانين اللاتينية والجرمانية، ويكون هذا القانون مشتقا من الفقه الإسلامي، اشتقاق هذه القوانين الحديثة من القانون الروماني العتيق.
إن مصادر الفقه الإسلامي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أما الكتاب والسنة فهما المصادر العليا للفقه الإسلامي، أي التي تنطوي على المبادئ العامة التي ترسم للفقه إتجاهاته، ولكنها ليست هي الفقه ذاته، فالفقه الإسلامي هو من عمل الفقهاء، صنعوه كما صنع فقهاء الرومان وقضاته القانون الروماني، وقد صنعوه فقها صميما، والصياغة الفقهية وأسايب التفكير القانوني فيه واضحة ظاهرة.
وعندما تنتقل إلى مرحلة التبويب والترتيب والتنسيق والتحليل والتركيب في الفقه الإسلامي فإنك تقف على الصناعة الفقهية في أروع مظاهرها وفي أدق صورها، ثم يقول لك هؤلاء الفقهاء الأجلاء في كثير من التواضع، إن هذا هو الإجماع أو القياس أو الاستحسان أو الاستصحاب أو ما شئت من المصادر التي ابتدعوها، وإن الأصل في كل هذا يرجع إلى الكتاب والسنة، لقد صنع هؤلاء الفقهاء فقها خالصا هو صفحة في سجل الفقه العالمي.
والذي نبتغيه من دراسة الفقه الإسلامي أن نبقيه فقها إسلاميا خالصا، فليس المقصود أن نخرج القانون الغربي فنجعله فقها إسلاميا، ولا أن نخرج الفقه الإسلامي فنجعله قانونا غربيا، بل ولا أن نستبقي الفقه الإسلامي على حاله، وإنما الهدف الذي نرمي إليه هو تطوير الفقه الإسلامي وفقا لأصول صناعته، حتى نشتق منه قانونا حديثا يصلح للعصر الذي نحن فيه.
هذه هي عقيدتي في الفقه الإسلامي، تكونت لا من العاطفة والشعور فحسب، بل تضافر في تكوينها الشعور والعقل ومكن لها شئ من الدرس.
إن مشروع الفقه الإسلامي، وما ينبغي لهذا الفقه المجيد من دراسة علمية في ضوء القانون المقارن، قد انغرس في نفسي، وأصبح جزءا من حياتي ، يكبر معها، ولكنه لا يشيب ولا يهرم".
هكذا تحدث فقيه القانون عن الفقه الإسلامي، حديث الخبير، ولذلك وجبت دراسة السنهوري على الإسلاميين والعلمانيين جميعا!.