أكثر الفتن التي ظهرت في المسلمين كان منبعها من المشرق، من حيث يطلُعُ قرنُ الشيطان، وهذا مطابقٌ لما أخبر به نبيُ الرحمة عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا وفِي يَمَنِنَا . قَالُوا : وَفِي نَجْدِنَا ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا وفِي يَمَنِنَا . قَالُوا : وَفِي نَجْدِنَا ؟ قَالَ : هُنَاكَ الزَّلاَزِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
قال ابن حجر: "وأول الفتن كان منبعها من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك مما يحبًه الشيطان ويفرحُ به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة" فتح الباري. فمن العارق ظهر الخوارج، والشيعة، والروافض، والباطنية، والقدرية، والجهمية، والمعتزلة، وأكثر مقالات الكفر كان منشؤها من المشرق، من جهة الفرس المجوس، كالزردشتية، والمانويًة، والمزدكية، والهندوسية، والبوذية، وأخيراً وليس آخراً: القاديانية، والبهائية .. إلى غير ذلك من الفرق الهدًامة. وأيضاً، فإن ظهور التتار في القرن السابع الهجري كان من المشرق، وقد حدث على أيديهم من الدًمار والقتل والشرً العظيم ما هو مدوًن في كتب التاريخ. وإلى اليوم لا يزال المشرق منبعاً للفتن والشرور والبدع والخرافات والإلحاد، فالشيوعية الملحدة مركزها روسيا والصين الشيوعية، وهما في المشرق، وسكون ظهور الدجًال ويأجوج ومأجوج من جهة المشرق نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. ولا بدً لي هنا من أن أنبًه على أن بعض الفتن هو من أشراط الساعة التي نص عليها رسول الله كوقعة صفنين وظهور الخوراج، وسأتكلم بإيجاز عن بعض الفتن العظيمة التي كانت سبباً في تفريق المسلمين، وظهور الشر العظيم.
ب ـ مقتل عثمان بن عفان
لقد كان ظهور الفتن في عهد الصحابة بعد مقتل أمير المومنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فإنه كان باباً مغلقاً دون الفتن، فلما قتل رضي الله عنه ظهرت الفتن العظيمة، وظهرت دُعاتُها ممًن لم يتمكن الإيمان من قلبه وممًن كان من المنافقين الذين يُظهرون للناس الخير، ويُبطنون الشر والكيد لهذا الدين .
عَنْ سليمان، سَمِعْتُ أبا وائل، يُحَدِّثُ عَنْ حذيفة، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ : أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ فِي الفِتْنَةِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا أَحْفَظُ كَمَا قَالَ، قَالَ : هَاتِ ، إِنَّكَ لَجَرِيءٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، قَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ، وَلَكِنِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ ، قَالَ : يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا ، قَال: يُفْتَحُ البَابُ أَوْ يُكْسَرُ ؟ قَالَ: لاَ ، بَلْ يُكْسَرُ ، قَالَ : ذَاكَ أَحْرَى أَنْ لاَ يُغْلَقَ ، قُلْنَا : عَلِمَ عُمَرُ البَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ، إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ، وَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ : مَنِ البَابُ ؟ ، قَالَ: عُمَرُ" البخاري. وكان ما أخبر به الصادق المصدوق فقد قتل عمر، وكسر الباب، وظهرت الفتن، ووقع البلاء، فكان أو فتنة ظهرت هي قتل الخليفى الراشد ذي النورين عثمان بن عفان على يد طائفة من دُعاة الشر، الذين تألًبوا عليه من العارق ومصر، ودخلوا المدينة، وقتلوه وهو في داره . وقد ذكر النبي لعثمان رضي الله عنه أنه سيصيبه بلاءُ، ولهذا صبر وننهى الصحابة عن قتال الخارجين عليه، كي لا يُيراق دم من أجله رضي الله عنه . وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه خرَج النبيُّ إلى حائطٍ من حوائطِ المدينةِ لحاجتِه ، وخرَجتُ في إثرِه ، فلما دخَل الحائطَ جلَستُ على بابِه، وقلتُ : لأكونَنَّ اليومَ بوَّابَ النبيِّ ، ولم يَأمُرْني ، فذهَب النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقَضى حاجتَه، وجلَس على قُفِّ البئرِ، فكشَف عن ساقَيه ودلَّاهما في البئرِ ، فجاء أبو بكرٍ يستأذِنُ عليه ليَدخُلَ ، فقلتُ : كما أنت حتى أستأذِنَ لك ، فوقَف فجئتُ إلى النبيِّ فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ، أبو بكرٍ يستأذِنُ عليك، قال : (ائذَنْ له وبشِّرْه بالجنةِ). فدخَل ، فجاء عن يمينِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فكشَف عن ساقَيه ودلَّاهما في البئرِ ، فجاء عُمَرُ فقلتُ : كما أنت حتى أستأذِنَ لك، فقال النبيُّ : ( ائذَنْ له وبشِّرْه بالجنةِ ) . فجاء عن يَسارِ النبيِّ ، فكشَف عن ساقَيه فدلَّاهما في البئرِ ، فامتَلَأ القُفُّ ، فلم يكُنْ فيه مجلسٌ، ثم جاء عُثمانُ فقلتُ : كما أنت حتى أستأذِنَ لك ، فقال النبيُّ : ( ائذَنْ له وبشِّرْه بالجنةِ ، معَها بَلاءٌ يُصيبُه ) . فدخَل فلم يجِدْ معَهم مجلسًا ، فتحوَّل حتى جاء مُقابِلَهم على شَفَةِ البئرِ ، فكشَف عن ساقَيه ثم دلَّاهما في البئرِ ، فجعَلتُ أتمَنَّى أخًا لي ، وأدعو اللهَ أن يأتيَ" البخاري. وخص النبي عثمان بذكر البلاء مع أن عمر قتل أيضاً، لكون عمر لم يمتحن بمصل ما امتحن به عثمان، من تسلط القوم الذين أرادوا منه أن ينخلع من الإمامة بسبب ما نسبوه إليه من الجوز والظلم، بعد إقناعة لهم، ورده عليهم. وبمقتل عثمان رضي الله عنه انقسم المسلمون، ووقع القتال بين الصحابة، وانتشرت الفتن والأهواء، وكثر الاختلاف، وتشعبت الآراء، ودارت المعارك الطاحنة في عهد الصحابة، وكان النبي يعلم ما سيقع من الفتن في زمنهم، فإنه أشرف على أطم من آطام المدينة، فقال: "هل ترون ما أرى؟" قالوا: لا. قال: " فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر". قال النووي: "والتشبه بمواقع القطر في الكثرة والعموم، أي: أنها كثير، تعمُ الناس، لا تختصُ بها طائفةٌ، وهذا إشارةٌ إلى الحروب الجارية بينهم، كموقعة الجمل، وصفين، والحرة، ومقتل عثمان والحسين ... وغير ذلك، وفيه معجزة ظاهرة له ".
ج ـ موقعة الجمل
ومن الفتن التي وقعت بعد قتل عثمان رضي الله عنه ما وقع في معركة الجمل المشهورة بين علي رضي الله عنه وعائشة وطلحة والزبير، فإنه لما قُتل عثمان، أتى الناس عليًاً وهو في المدينة، فقالوا له: ابسط يدك نبايعك فقال: حتى يتشاور الناس. فقال بعضهم: لئن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان، ولم يقم بعده قائمٌ، لم يؤمن الاختلاف وفساد الأمة. فألحُوا على علي رضي الله عنه في قبول البيعة، فبايعوه، وكان ممًن بايعه طلحة والزبير، ثم ذهبا إلى مكة للعمرة، فلقيتهم عائشة، وبعد حديث جرى بينهم في مقتل عثمان توجًهوا إلى بالبصرة، وطلبوا من علي أن يسلًم لهم قتلة عثمان، فلم يجبهم، لأنه كان ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحدٍ بعينه أنًه ممًن قتل عثمان، اقتصً منه، فاختلفوا بسبب ذلك، وخشي من نُسب إليهم القتل ـ وهم الخارجون على عثمان ـ أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بين الطائفتين. وقد أخبر النبي علياً أنه سيكون بينه وبين عائشة أمرٌ، ففي الحديث عن أبي رافع "أن رسولاللهقال لعلي بن أبي طالب إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر قال : أنا يا رسول الله ، قال : نعم ، قال : إناقال : نعم ، قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله، قال: لا ، ولكن إذا كان ذلك فأرددها إلىمأمنها" مسند الإمام أحمد. ومما يدلٌ على أن عائشة وطلحة والزبير لم يخرجوا للقتال، وإنما للصلح بين المسلمين ما رواه الحاكم من طريق قيس بن أبي حازم، قال: " لما بلغت عائشة بعض ديار بني عامر، نبحت عليها الكلاب، فقالت، أي ماء هذا؟ قالوا: الحوأب. قالت: ما أظنُني إلا راجعة. فقال لها الزبير: لا بعد، تقدمي، فيراك الناس، فيصلح الله ذات بينهم. فقالت: ما أظنُني إلا راجعة،سمعتُ رسول الله يقول: "كيف بإحداكُنً إذا نبحتها كلاب الحوأب" مستدرك الحاكم. وفي رواية للبزار عن ابن عباس، ، قال: قال رسول الله ، وهو عند أزواجه: ( لَيْتَ شِعْرِي، أَيَّتُكُنَّ صَاحِبَةُ الْجَمَلِ الْأَدْبَبِ، تَخْرُجُ فَيَنْبَحُهَا كِلَابُ حَوْأَبٍ، يُقْتَلُ عَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا قَتْلَى كَثِيرٌ، ثُمَّ تَنْجُو بَعْدَمَا كَادَتْ). قال ابن تيمية: "إن عائشة لم تخرج للقتال، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنًت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبيًن لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرتْ خُرجها، تبكي حتى تبُلً خِمارها، وهكذا عامًة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم صحلة والزبير وعليُ رضي الله عنهم أجمعين. ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصدٌ في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم، فإنه لما تراسل عليُ وطلحة والزبير، وقصدوا الاتفاق على المصلحة، وأنهم إذا تمكُنوا، طلبوا قتلة عثمان أنل الفتنة، وكان عليُ غير راضٍ بقتل عثمان، ولا معيناً عليه، كما كان يحلف، فيقول: "والله ما قتلتُ عثمان، ولا مالأتُ على قتله". وهو الصادق البار في يمينه، فخشي القتلة أن يتفق عليُ معهم على إمساك القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير، فظنً طلحة والزبير أن علياً حمل عليهم، فحملوا دفعاً عن أنفسهم، فظنً عليُ أنهم حملوا عليه، فحمل دفعاً عن نفسه، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم، وعائشة راكبةٌ، لا قاتلت، ولا أمرت بالقتال، وهذكا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار" منهاج السنة.