لم يتوقف الهجوم الإيراني على السعودية خلال السنوات الماضية، ولكنه بات واضحا ومكثفا خلال الفترة الأخيرة بعد حادثة تدافع الحجيج في مشعر منى ووفاة مئات الحجاج من جنسيات مختلفة أول أيام عيد الضحى المبارك، وتصاعدت نبرة المسؤولين الإيرانيين إلى حد التهديد بالمطالبة بتحقيق دولي في أمر إسلامي خالص، والمطالبة بالمشاركة في تنظيم فريضة الحج، واستخدام القوة ضد السعودية وغير ذلك من التهديدات والتصريحات النارية التي يطلقها المسؤولين الإيرانيين على مختلف مستوياتهم.
لا يمكن تفسير الهجوم الإيراني الأخير على السعودية بأنه غضب من حادثة تدافع منى ووفاة أكثر من مائة حاج إيراني وإصابة آخرين، إذ أن الهجوم يسبق الحادثة بكثير، والتهديدات الإيرانية الجوفاء مستمرة منذ شهور، والخلاف بين البلدين قديم ومتجذر، ولا يمكن التغاضي عنه للتسليم بحسن النوايا الإيرانية في مثل هذه الحادثة وما تبعها من تداعيات.
الشيعة والمشروع الفارسي:
إيران دولة فارسية يعتنق معظم مواطنيها المذهب الشيعي، وهي تسعى لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية التي كانت تقاسم الإمبراطورية الرومانية حكم العالم في القرون التي سبقت الرسالة المحمدية وبعثة النبي الكريم محمد –صلى الله عليه وسلم- بل إنها كانت تحكم أطراف الجزيرة العربية من اليمن جنوبا وعمان شرقا والعراق شمالا، وعندما جاء الإسلام أنهى عصر الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين قضوا على الإمبراطورية الفارسية في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ومن يومها لم تقم للإمبراطورية الفارسية قائمة، إلا متسترة بستار التشيع، ولطالما كانت تلك الدول التي تسترت بستار التشيع شوكة في خاصرة المسلمين، ولعل ما فعله القرامطة والصفويون خير دليل على ذلك.
إن الدولة الفارسية في إيران تدرك أنها لن تستعيد أمجاد إمبراطوريتها القديمة إلا على أنقاض الدول العربية في شبه الجزيرة، وقد استطاعت إيران السيطرة بالفعل على العراق سيطرة شبه تامة بعد الغزو الأمريكي عام 2003 والذي ساهمت إيران بدور بارز فيه ووجهت للإسلام والمسلمين ضربة قوية، وقد حاولت خلال فترة الربيع العربي أن تسيطر على البحرين تحت ستار الثورة الشعبية، لكن دخول قوات درع الجزيرة والتي كانت تتكون من مدرعات سعودية وإماراتية، قلب الطاولة على الشيعة الموالين لإيران، وأنهى محاولة الانقلاب الشيعية الفاشلة واستقرت الأمور كما كانت.
السعودية وقيادة الدول السنية:
إن الخطط الإيرانية لاستعادة أمجاد إمبراطورية الفرس تصطدم اصطداما قويا بعقبتين كبيرتين تجعلان من تحقيق هذه الأمنية الإيرانية، أمرأ مستيعدا: أولاهما هي العقيدة الإسلامية الخالصة عقيدة أهل السنة والجماعة التي تتناقض وتتعارض مع العقيدة الشيعية التي يعتنقها معظم الإيرانيين تناقضا واضحا، لا يمكن الوصول معه إلى نقطة تلاقي أو اتفاق، وسيبقى الخلاف العقائدي بين السنة والشيعة مصدرا قويا للخلاف السياسي بين الطرفين وحقائق التاريخ خلال 14 قرنا تدل على ذلك.
أما العقبة الثانية هي وجود دولة قوية في شبه الجزيرة العربية تجعل من الاختراق الشيعي والاحتلال الفارسي لأطرافها أمرا صعبا، ومن تدابير القدر أن تكون هذه الدولة هي السعودية التي تعد أقوى الدول الإسلامية السنية في العالم، وهي أيضا دولة عربية بل هي قلب الجزيرة العربية، وهذه الدولة بمقوماتها ومواردها وطبيعتها وعقيدة أهلها تمثل أكبر عقبة أمام الأطماع الإيرانية في المنطقة برمتها.
والسعودية كدولة عربية إسلامية تعلن بوضوح أنها دولة سنية بل هي تمثل رأس حربة الدول الإسلامية السنية في العالم كله ضد المشروع التوسعي الإيراني، وقد شهدت السنوات القليلة الماضية صورا من المواجهات الغير مباشرة بين إيران السعودية، ولا تزال بعض هذه المواجهات مستمرة حتى كتابة هذه السطور، وفيما يلي سرد سريع لهذه المواجهات:
- البحرين:
سارعت إيران إلى دعم محاولة الانقلاب الشيعية في البحرين خلال فترة الربيع العربي، وأمدت الجماعات الشيعية في البحرين بالدعم اللازم لتنفيذ المخطط الإيراني للسيطرة على البحرين وضمها إلى إيران باعتبارها إحدى ولاياتها، إلا أن السعودية والإمارات سارعتا بإرسال قوات درع الجزيرة بناء على طلب البحرين، وكان للسعودية النصيب الأكبر في تلك القوات، وتم إحباط المخطط الإيراني، وقالت البحرين على لسان وزير خارجيتها خالد بن أحمد آل خليفة "إن قوات درع الجزيرة لن تبارح البحرين حتى يذهب الخطر الإيراني"، بينما تقدمت إيران بشكوى في مجلس الأمن بشأن إرسال درع الجزيرة إلى البحرين!
- اليمن:
تعد إيران حليفا للميليشيات الحوثية في اليمن وداعما رئيسيا على كافة المستويات السياسية والعسكرية، وقد خاضت السعودية حربا ضد هذه الميليشيات منذ عدة سنوات عندما اقتربت من الأراضي السعودية، وقد استغلت هذه الميليشيات حالة الفوضى الأمنية والسياسية التي شهدها اليمن خلال السنوات الماضية وتحالفت مع ميليشيات الرئيس السابق علي عبد الله صالح من أجل السيطرة على اليمن، وقد استطاعت بالفعل بسط سيطرتها على معظم الأراضي اليمنية واحتلال العاصمة صنعاء واحتجاز رئيس الوزراء وبعض أعضاء حكومته وإجبار الرئيس عبد ربه منصور هادي على توقيع اتفاقية لتقاسم السلطة ثم دفعه لتقديم استقالته وحصاره بالقصر الرئاسي.
عندما تمكن الرئيس اليمني من الهروب من القصر الرئاسي بالعاصمة صنعاء إلى عدن، توجه الحوثيون إلى عدن للقضاء على ما تبقى من السلطة الشرعية، حينئذ قامت السعودية بتشكيل تحالف عربي وتوجيه ضربات عسكرية قوية إلى الحوثيين وقلب الطاولة عليهم، ودعم قوات الجيش الموالية للشرعية وقوى المقاومة الشعبية حتى تم تحرير نحو ثلثي الأراضي اليمنية من الميليشيات الحوثية.
- الأزمة السورية:
عندما قامت الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد أعلنت إيران ومنذ اللحظة الأولى موقفها المعارض لتلك الثورة الشعبية –وهو يتناقض مع موقفها من محاولة الانقلاب في البحرين التي حاولت تصويرها كثورة شعبية- وعندما تصاعدت الأحداث في سوريا قامت إيران بتقديم كل الدعم العسكري والسياسي للنظام السوري، وأرسلت الآلاف من جنودها والميليشيات التابعة لها في لبنان والعراق لقتل أبناء الشعب السوري، ولولا هذا الدعم الإيراني لسقط النظام السوري في وقت مبكر.
أما السعودية فقد اتخذت موقفا معارضا لهذا الموقف الإيراني، فقد أعلنت تأييدها لتطلعات وثورة الشعب السوري، وسعت لإقناع الدول الكبرى بالتدخل لأنهاء تلك الأزمة في وقت مبكر، وعندما تصاعدت الأحداث اتخذت السعودية مواقف أكثر حدة من نظام الأسد، وباتت تقود الدول التي ترفض بقاء النظام السوري.
حادثة منى:
كل هذه المواقف السعودية كانت إيران تقابلها بالهجوم الإعلامي الشديد الذي لم يتوقف على مدار السنوات والشهور الماضية، فتارة تصفها بالعمالة وتارة بالخيانة وتارة بالإرهاب وتارة بالتخلف والبداوة، حتى وقعت حادثة مشعر منى الأليمة صبيحة عيد الأضحى المبارك، وراح ضحيتها الآلاف من الحجاج بين متوفي ومصاب، وبينما الألم يعتصر قلوب المسلمين حول العالم، ولم يتم بدء التحقيق في سبب هذه الكارثة، خرج المسؤولون الإيرانيون يحملون السعودية مسؤولية تلك الحادثة.
لقد تخطى الهجوم الإيراني على السعودية كافة الأعراف الدبلوماسية والتقاليد السياسية، ووصلت إلى حد التهديد المباشر من قبل رؤوس السلطة في إيران باستعمال القوة العسكرية ضد السعودية، فقد قال المرشد الإيراني علي خامنئي معلقا على الحادثة "يجب أن يعلم السعوديون أن إيران تملك المزيد من القدرات, وإذا قررت التحرك فإن موقفهم لن يكون جيدا"، بينما قال الرئيس حسن روحاني مهددا "إيران تعاملت مع الحادثة بلغة الأخوة والأدب واستخدمت لغة دبلوماسية، لكنها "سوف تلجأ إلى لغة القوة إذا دعت الحاجة"، وقال القائد العام للحرس الثوري اللواء محمد علي جعفري "قوات حرس الثورة الإسلامية وظفت جميع إمكانياتها للتحضير لرد سريع وحازم على فاجعة منى وإرغام آل سعود على تحمل مسؤولياتهم فضلا عن استيفاء حقوق الحجاج الإيرانيين، وانها تنتظر الأوامر".
من خلال ما سردناه في السطور السابقة، يتبين أن تزايد الهجوم الإيراني على السعودية بعد حادثة منى لم يكن غضبا من وقوع الحادثة أو حزنا على رعاياها الضحايا، بل هي الفرصة التي أتتها على طبق من ذهب، فهي لم تنتظر نتائج التحقيق لمعرفة أسباب الحادثة، بل تجاهلت التقارير التي تحدثت عن تسبب بعض الحجاج الإيرانيين في هذه الحادثة عمدا، وأطلقت وسائلها الإعلامية ومتحدثيها الرسمين وكبار مسؤوليها للنيل من السعودية والحط من مكانتها والتهجم عليها، إرواء لغليلها من تلك الدولة التي تقف عقبة أمام مشروعها التوسعي في المنطقة.
لن يتوقف الهجوم الإيراني على السعودية ولن تتوقف تلك الحملات المسعورة التي تشنها إيران، بل ستستغل كل فرصة لتوجيه السهام للسعودية والحط من مكانتها، وليس الخلاف مع حكام المملكة كما يزعم الإيرانيون بل الأزمة الحقيقية في وجود تلك الدولة القوية ذاتها في وجه مشروعها الفارسي التوسعي.
مجدي داود