مدير وحدة الحركات الإسلامية بالمركز العربي للدراسات الإنسانية
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر هبت على العالم الإسلامي مرحلة جديدة من الحروب تم خلالها إسقاط دولتين, العراق وأفغانستان, وخرج بوش الابن وقتها، ليقول إنها حرب صليبية جديدة، وأن من ليس معنا فهو ضدنا, واليوم بعد حادثة صحيفة شارلي إيبيدو يرى البعض أننا على أعتاب مرحلة جديدة أيضًا تشبه في تداعياتها تداعيات ضرب برجي التجارة في الولايات المتحدة الأمريكية أو يراد لها أن تبدو كذلك. والهدف إيجاد حالة من الاستنفار العالمي يكون داعمًا لعملية اجتياح عسكري كبرى تطال بعض الدول العربية أو الإسلامية. ربما يبدو ذلك منطقيا.
لكن وفي قراءة متأنية للأحداث مع مقاربة الخبرة الأوروبية الاستعمارية التي أورثت الغرب معرفة قوية بنمط التفكير الإسلامي والعربي، ومع تجربة أمريكية صعبة ما زالت تداعياتها على السياسة الأمريكية بداية إلى الآن، تصبح قراءة التدخل العسكري ضعيفة إلى حد كبير.
لقد أعقبت عملية شارلي إيبيدو حالة من الصراخ الإعلامي العالمي تداعى له كافة الزعماء والرؤساء وكأنه حفل توقيع على بياض لما ستتخذه أوروبا من قرارات أو استراتيجيات وعلى الجميع أن يرضى ويصمت إن لم يؤيد ويشارك.
السؤال الذي يطرح نفسه ما الذي ستقدم عليه فرنسا وأوروبا بشكل عام من سياسات أو استراتيجيات بعد ان تهدأ العاصفة الإعلامية؟
ما بين الحادي عشر من سبتمبر وشارلي إيبيدو:
أوروبا تشعر بالخطر من تغلغل الإسلام في أوروبا وانتشاره وهناك الكثير من الكتابات التي تحذر أوروبا من أنها ستصبح ذات أغلبية من المسلمين إذا استمر زيادة أعداد المسلمين بنفس المعدل خلال قرن على الأكثر، هناك عملية تخويف مستمرة من المسلمين تصوغ كل ممارسات الإقصاء والإفقار والتهميش لهم، وفي فرنسا هناك العديد من الكتابات تحذر من وصول المسلمين للحكم خلال سنوات معدودة، وفي ألمانيا على سبيل المثال لا ينقطع التحذير السياسي والحزبي والفكري والإعلامي يوميًا من المسلمين وهناك سلسلة مظاهرات الأسبوعية (يوم الاثنين) لما يسمى حركة "الوطنيون الأوروبيون ضد أسلمة بلاد الغرب".
لذلك فإن رد الفعل الفرنسي والأوروبي على تلك الحادث بشكل عام سيكون مختلفًا جذريًا عن رد الفعل الأمريكي الذي كان موجهًا للخارج بدرجة كبيرة رغم ضخامة الحادثة داخليا إلا أن الساحة السياسية أو القانونية لم تشهد تضييقا بشكل كبير ضد المسلمين في الداخل الأمريكي.
بينما في أوروبا ذات الخبرة الاستعمارية والتي تضم كتلة إسلامية كبيرة ضمن سكانها فإن رد الفعل سيكون داخليا أكثر منه خارجيا. وحتى على الصعيد الخارجي سيكون موجهًا تجاه تغيير بنية منظومة القيم الإسلامية أكثر منه عسكريا، خاصة أن الخبرة الإمريكية في التدخل العسكري باءت بالفشل الذريع.
المسلم الجديد:
لا أحد في الغرب يريد أن يبحث في أصل المشكلة ويسعى لحلها, فقد جرى تصنيف حادثة شارلي إيبيدو على أنها جريمة ضد حرية التعبير، وضد قيم الحرية والديمقراطية في أوروبا، ولم يذكر أحد جذور المشكلة ولا طبيعتها. لا أحد إلا القليل من أمثال رئيس وزراء فرنسا السابق دومينيك دو فيلبان، الذي قال في مقابلة متلفزة: إن تنظيم الدولة الإسلامية هو "الطفل الوحشي لتقلب وغطرسة السياسة الغربية", معتبرا أن التدخل العسكري في أفغانستان والعراق وليبيا ومالي ساهم في "تضاعف أعداد الجهاديين الإرهابيين الذين كانوا بضعة آلاف وأصبحوا يعدون نحو ثلاثين ألف مقاتل".
وأضاف أن هذا التنظيم "يكشف الإرهاب الحقيقي ويبرئ المسلمين من هذه الأعمال الإجرامية". كما طالب الغرب بالوقوف أمام الحقيقة المؤلمة التي شاركوا بقوة في صنعها. لكن هذه الصيغة ليست هي السائدة في أوروبا بل هي أصوات على هامس المشهد السياسي العام.
إلى أين يتجه المشهد السياسي الغربي في مواجهة أمثال تلك الحوادث؟
"أنا أصوم طبعًا، وهذا جزء من ديانتي؛ لأني أريد أن أكون محترمة». كانت هذه هي إجابة سؤال وُجّه لريما فقيه، طرحه عليها الصحافي نيراج واريكو، من موقع «فري برس» الأمريكي الإخباري، عبر الهاتف.
تلك المسابقة التي تتطلب أن تتعرى المتسابقات فيها أمام فريق التحكيم بشكل شبه كامل.
هذا المشهد شديد الرمزية الذي يجمع بين المتناقضات، يشير بدلالة مركزة إلى نموذج المسلم المتعايش مع الحضارة الغربية -بالمفهوم الغربي- بكل قيمها ومفاهيمها.
نموذج ريما فقيه هو نموذج الحرب الأوروبية القادمة على العالم العربي والإسلامي.
فعندما تقول ريما فقيه: إنها متمسكة بدينها، وتقوم بواجب الصوم الذي يزيدها بهاءً وجمالاً، فمن الواجب أن نصدقها؛ لأننا في نهاية المطاف أمام مجرد صورة. وليس مطلوبًا منا سبر أعماق تلك الصورة أو الكشف عن نواياها. وريما فقيه ليست بعيدة في قناعتها عن أفكار أمينة داوود ذات الأصول الإفريقية، والتي أصبحت الآن أمريكية، تلك السيدة التي دعت لإمامة المرأة للصلاة في المساجد، وأمّت فعلاً الصلاة منذ بضع سنوات في كنيسة سان جونز في واشنطن.
إذن فريما الفقيه تمثّل الطبعة الجديدة من الإسلام الذي يريده الغرب، الإسلام الجديد الذي تستطيع من خلاله المسلمة أن توائم في ضميرها، بين إسلامها وشبه عُرْيها أمام المصورين.
والقضية هنا ليست قضية انحراف سلوكي يقع به بعض المسلمين، لكن القضية الأهم هو أن يُدَّعى أن هذا الانحراف السلوكي لا يتناقض مع الإسلام، وأن بوسع المسلم أن يتماهى مع المجتمع الغربي ومفاهيمه، والتي تحترم الشذوذ، وتقدس العري دون أن يفقد إسلامه أو حتى يشعر بتأنيب الضمير!
وليس المستهدف بالإسلام الجديد عقول المسلمين العاديين فقط، بل أيضًا هناك محاولة لاختراق الخطاب الدعوي الإسلامي نفسه، فالمتابع لواقع المواقف والأطروحات الغربية في تعاملها مع الإسلاميين يستطيع أن يرصد سعيها نحو تطوير خطاب إسلامي يكون مطابقًا للمواصفات الغربية، بأن يؤيد الديمقراطية الليبرالية بوصفها معيارًا أعلى، ويؤيد قيم الحرية الفردية، وحقوق الإنسان الفرد المستقل عن أي مجموع أو كيان جماعي، «فالمواصفة الأساسية المطلوبة من الخطاب الإسلامي المعتمد غربيًّا، هو أن يجعل الإسلام دينًا فرديًّا، ليس له علاقة بالمجال العام، أو النظام العام، أو الدولة أو الدستور أو القانون. وبهذا يصبح الخطاب الإسلامي الجديد قابلاً للتعايش مع الهيمنة الغربية».
نجحت أوروبا بشكل شبه جزئي في المرحلة السابقة لكن في إستراتيجيتها الجديدة آن الأوان للتغيير بشكل شبه كامل عبر إعادة كتابة الإسلام من الجديد والبدأ بهدم كل القيم والثوابت الإسلامية والتشكيك في كل التراث الإسلامي والبدأ من جديد في كتابة إسلام متوافق ومتطابق مع كل القيم الليبرالية الغربية. خاصة أن مجمل الشعوب الإسلامية والعربية الآن في حالة انكسار نتيجة ضياع ثوراتها وفشلها في حركة التغيير التي كانت تصبو إليها.
والمتباع لما يعرضه الإعلام من هجمة ممنهجة على ثوابت الإسلام سواء على مستوى العقيدة أو الأخلاق أو السلوك وما يتعرض له الأزهر من ضغوط واتهامات بالتطرف والتشدد، والهجمة على العلوم الإسلامية وكتب الحديث والتفسير والسخرية من المذاهب الفقية كل ذلك يصب في اتجاه تلك الحرب الجديدة وما عملية شارلي ايبيدو إلا قليل من الزيت ليزداد اشتعال النار.
كتبه/ أحمد عمرو