ما زلت أكتب في روايتي الجديدة " سر من رأى "، وبلا شك فإني حزين والله، يقف المسلم هناك على أكتاف العمالقة، أنهش من كل جزئية تصعقني وأنا أبحث، نقتل أنفسنا بأن الخليفة فلانا أدخل السجن فلانا، وحاصر الفلانيين، لكننا نترك بناء مدينة لم ير التاريخ مثلها في وقتها ببضع سنوات !! نختزل العملاق بأظافر رجليه .
مثلما أن لدبي مثلا أطول برج في العالم ، فإني أحصيت إلى الآن 10 مواضع على وزن " أفعل " في سامراء وحدها قبل ثلاثة عشر قرنا ، طولا وعرضا وإبداعا وهندسة ، مساجد وأسواق وصناعات ، لم يرى قبلها مثلا أبدا.
لو كانت موسوعة غنس في عهد المعتصم والمتوكل لسجلت 10 لسامراء وحدها ، ولحصد علماء سامراء كل جوائز نوبل بلا منازع ، كيف صنعوا التزجيج ، والميناء ، كيف صنعوا التبريد والتدفئة !! كيف ابتكروا تقسيم وتخطيط المدن ، شوارع لا يناطحها الآن إلا الخطوط السريعة.
كذلك في مسائل الشريعة ودقائق الحكم ، وبسْطة الدين في كتاب الموطأ، وما صنعه الشافعي في كتابه الرسالة ستجدون كنوزا كبرى ليس في الفقه والعقيدة فقط ، وليس في أحاديث الطهارة والصلاة وحدها ، بل في " مقاصد الدين والإسلام الكلية " فيفرد الشافعي 4 فصول ليشرح فقط معنى " البيان " كيف نفهم ما يقال وفي أي سياق .
في البحث أمرُّ على سيدي وحبيبي أحمد بن حنبل ، المتماهي مع الناس ، لا يرتفع عليهم بعلمه ، ولا يقل عنهم بمد يده لأحد أبدا ، كائنا من كان ، سلطانا أو تاجرا ، ويحمل على ظهره بضائع الناس ليخرج قوت يومه ويمضي ، لكنه معهم ، يأكل الباقلاء في كرخ بغداد ، ويفك الخط والرسائل مذ كان صغيرا للعائلات ، ويكتب لهم بخطه الجميل رسائلهم لأهلهم! تخيل! هذا العالم الزاهد في محنته خرجت له بغداد في مظاهرة كبرى كادت تكسر أسوار قصر المعتصم ، فرضخ لهم المعتصم من فوره ، وسلمهم حبيبي أحمد بن حنبل والدماء تتقاطر منه بسبب السياط على ظهره ، كاد ابن حنبل أن يموت فانتفض الشعب لعالِمه الذي كان يحشر نفسه بينهم ويحبهم ويزهد عما في أيديهم .
أسير كذلك في صنعة الحروب ، وخيوط المعتصم الاخطبوطية في مسك من خرج على سلطان المسلمين ، والله إنها لتدرس الآن وفيها العجائب والغرائب ، لولا المعتصم وانتفاضته في " وامعتصماه " لما كان أردوغان الآن يقف على عرش تركيا، فالمعتصم أدخل الإسلام لأنقرة .
أكثر ما يؤذيني هو أننا صرنا نفهم الإسلام " بالنص " نص يقول " قاتلوهم " فنشرع السيوف، وآخر يقول " من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى " فنفهم أن في الصلاة 500 ضعف فقط !! أمة النصوص مخيفة جداً، انتبه الشافعي قبل ثلاثة عشر قرنا لها، وراح يكتب الرسالة ويعلمنا فهم البيان ومعنى الآية أو النص وأين نضعه .
ومن النصوص أنك تتهجم على الرشيد أو المعتصم أو المتوكل ، ولا تعلم ماذا فعل هولاء للدنيا كلها. أنتجوا حضارة عظيمة عريقة واسعة ، تفهم معنى السلام ، والجمال ، والعمران ، والعلوم ، تفهم معنى الإسلام أنه شامل للحياة ، مستوعب أركانها ، يبنيها ، يعمرها ، يهذب النفوس ، يجعلها راضية مطمئنة ، ليس الإسلام الأمريكاني ولا الإسلام الداعشي !!
إنه إسلام العقيدة والصناعات ، إسلام الحب والعلوم ، إسلام ارتفاع الروح وثبات الجسد في الأرض عملا وحكمة ، إسلام الشعوب والقبائل التي تتعارف ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وما ظُلِم دين في الأولين والآخرين ، كما يظلم هذا الإسلام البريء. عذرا يا أيها الإسلام ، لقد خذلناك ، وشوهناك ، وآذيناك ، وقسمناك ، وحرفنا نصوصك الخالدة بأفهام ضحلة ، عذرا يا إسلامنا الحبيب ، سيبدل الله المسلمين الآن بأقوام أخرى ، خير منا بلا شك ، فالإسلام الذي نراه مرهون، منهك، ليس فيه إلا النفس.