يوما بعد يوم، يكشف الحوثيون عن أطماع طائفية لا يرضون عنها بديلا، وبات إسقاط الدولة اليمنية هدفا رئيسا لدى الحوثيين، مقابل سلطة ضعيفة تخشى أن يؤدي إعلان الحرب الشاملة على الحوثيين من خلق حالة من الفراغ الأمني قد يمكن لتنظيم القاعدة من استغلاله في بسط نفوذه.
وبات من الواضح أيضا أن الحوثيين يرفعون سقف مطالبهم باستمرار الضغط الشعبي لأتباعهم بجانب الحراك العسكري، بالإضافة إلى إجهاض المفاوضات بعد قبول الجلوس على مائدتها ابتداء.
ولا يمكن بأي حال النظر إلى الحرب الدائرة في اليمن دون الالتفات إلى الدور الإيراني، والذي أسهم في إخراج الحوثيين عن السياق الوطني، ودعمهم بقوة لمواجهة النظام اليمني، بما يؤكد المطامع الإيرانية في تصدير ثورة الخميني القائمة على المنهج الشيعي الإمامي، باعتبارها أعلى مرجعية لهذا المذهب.
الحوثيون في ظل قيام الثورة الخمينية:
فإيرانتعملمن أجل إقامة الهلال الشيعي الذي تمثل هي مركزه، ويمتد طرفاه إلى الجهة الشمالية إلى بلاد الشام ولبنان، والجهة الجنوبية عبر العراق الجنوبي الشيعي، إلى شرق السعودية وجنوبها الشرقي إلى اليمن وخصوصا الشمال، حيث يمثل الرأس الجنوبي للهلال.
ولقد كان واضحا منذ اندلاع ثورة الخميني أنها تؤسس على حتمية نقلها إلى دول الجوار ثم إلى بقية العالم الإسلامي، وهو ما جهر به الخميني خلال مؤتمر الذكرى السنوية للثورة عام 1982 حين قال: "إننانعمل علىتصديرثورتناإلىمختلفأنحاءالعالم".
ولقد اتخذ الخميني زعيم الثورة الإيرانية المسار العسكري في تصدير ثورته، فكانت أهم إفرازات هذا المسار: الحرب العراقية الإيرانية أو ما عرف باسم حرب الخليج الأولى من سبتمبر 1980 وحتى أغسطس 1988، والتي خلفت حوالي مليون قتيل، وخسائر مالية بلغت 400 مليار دولار أمريكي.
في هذه الفترة كان الحوثيون وأصحاب المنهج الزيدي عموما ، قد رأوا في الثورة الإيرانية مخلصا للعالم الإسلامي من الأنظمة الديكتاتورية الظالمة، وأنها صورة حية للدولة الإسلامية المتحررة من التبعية للغرب، فكانت المظاهرات المؤيدة للخميني تجوب شوارع صعدة، مطالبة بنقل أفكار الثورة ومعانيها لسائر الدول، الأمر الذي واجهته الحكومة اليمنية بحملات الاعتقال لإخماد تلك المظاهرات.
فجاءت الحرب العراقية الإيرانية لتمثل صدمة لليمنيين حكومة وشعبا، ووقفت القيادة السياسية بجانب العراق، ودعمت قواتها وجندت من أجل ذلك آلاف المقاتلين تحت ألوية العروبة .
مقدمات توغل الثورة الإيرانية في اليمن:
الزيدية - التي ينتمي إليها الحوثيون -رغم أنها فرقة شيعية، إلا أنها كانت أبعد الفرق عن الإمامية، بل كان كل منهما يكفر الآخر. غير أن الزيديين كانوا قد تأثروا بالفعل بأفكار الثورة الخمينية، ورأوا ضرورة نقل معالمها وأفكارها إلى اليمن، ومن ثم بدأ التقارب بين الفكر الزيدي والإمامي في التألق.
وبدا أن الثورة الإيرانية وجوهرها الفكري الشيعي تمارس في تلك الفترة نشاطا تبشيريا سريا في اليمن خلال فترة الثمانينيات وهو ما أكد عليه نائب رئيس الوزراء لشئون الدفاع والأمن الدكتور رشاد العليمي خلال كلمته أمام مجلس النواب عام 2008م.
وكان أول تحرك ملموس يدل على ذلك النشاط الإمامي في اليمن، تكوين اتحاد الشباب عام 1986 على يد صلاح أحمد فليتة، حيث كان يتم تدريس مادة عن الثورة الإيرانية ومبادئها، وكان القائم بالتدريس هو محمد بدر الدين الحوثي، الشقيق الأكبر لحسين الحوثي مؤسس الحركة الفعلي.
العوامل التي مكنت للأطماع الإيرانية في اليمن:
بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، بدأت طهران تدخل في علاقات مع دول الجوار وفتحت صفحة جديدة مع العرب، الأمر الذي سهل لها نشر أفكار الثورة الإيرانية.
لقد حول رفسنجاني - بخلاف سلفه الخميني –مشروع تصدير الثورة الإيرانية إلى المسار السياسي الفكري، فكان الاعتماد على نشر التشيع على المذهب الإمامي عن طريق التجميع على حب آل البيت ورد حقهم المسلوب، والشعارات البراقة التي لامست أفئدة الشعوب المقهورة كالعدالة الاجتماعية والحريات، والتصدي لأمريكا الشيطان الأكبر وفتاها المدلل إسرائيل.
وأنفقت إيران مبالغ طائلة في التقارب مع دول المنطقة، بإقامة المراكز الثقافية وتقديم منح للدارسين من خارج إيران وإقامة جمعيات خيرية في دول الجوار، ومن ثم أزيلت النظرة السلبية تجاه إيران، الأمر الذي ترتب عليه تصاعد النشاط الشيعي الإمامي في اليمن.
وثمة عامل آخر وطد لتوغل الخمينية في اليمن، وهو قيام الوحدة اليمنية في اليمن عام 1990 وما ترتب عليه من تعددية سياسية والسماح بتأسيس الأحزاب، ليستفيد منه الزيدية في بدء مشروعهم السياسي، فتم الإعلان عن إنشاء ما يزيد على 60 حزبا من مختلف التوجهات، منها حزبان شيعيان وهما حزب الحق، واتحاد القوى الشعبية.
تزامن مع فتح الباب للتعددية السياسية، بروز تنظيم "الشباب المؤمن" الذي قام على أطلال اتحاد الشباب، والذي تزعمه بدر الدين الحوثي ثم ابنه حسين بدر الدين الحوثي.
كان التنظيم في البداية يهدف إلى تدريس المذهب الزيدي والتربية على أفكاره ومبادئه، من خلال علماء الزيدية البارزين، ولم تكن للتنظيم أي توجهات سياسية أو عسكرية.
ولقد أدت أفكار الحوثي التي أظهرت تقاربه مع الإمامية وميله إليها بما يخالف منهج الزيدية، إلى حدوث شقاق بينه وبين العلماء الزيديين، سافر على إثرها إلى إيران وتشبع بالمذهب الجعفري، ثم عاد بعد سنوات يروج لمنهج الشيعة الإمامية الإثنى عشرية، وأرسل بأبناء صعدة إلى حوزات قم والنجف ليصبح ذارعا للثورة الخمينية وإطارها المنهجي (الإمامية) في اليمن على غرار حزب الله اللبناني الشيعي، بالتزامن مع بدء التنظيم في ممارسة العمل السياسي حيث كان له مقعد في مجلس النواب ممثلا عن الطائفة الزيدية.
وأصبح النفوذ الإيراني واضحا في المجتمع اليمني، فظهرت الشخصيات التابعة للمذهب الجعفري بقوة في الوظائف الحكومية المختلفة، وانتشرت المطبوعات الإيرانية والجعفرية في اليمن، كما بدأت الاحتفالات والطقوس الخاصة بالإمامية في الانتشار.
الحوثيون والنظام اليمني:
لم تكن ثمة مشكلة بين الحكومة اليمنية وبين الزيدية التي هي جزء أساس من مكونات المجتمع اليمني، فقد كانت أشبه بتيار ثقافي ومدرسة علمية.
إلا أن الحوثي قد أدخل على تلك المدرسة العلمية أفكار الثورة الخمينية وجوهرها الفكري وهو المنهج الشيعي الجعفري، وسلك ذات المسلك المعروف للتنظيمات الشيعية التي تدعمها إيران، بنفس الأساليب التعبوية والثقافية والعسكرية مغفلة بنعرة طائفية تنطلق من توصيف للواقع على أساس المظلومية.
ورغم إصرار الحوثيين على انتمائهم للزيدية، إلا أن الواقع يكشف أن ذلك الإصرار ما هو إلا تقية لاستمالة التعاطف من اليمنيين، وإلا فقد ضرب الحوثيين بعرض الحائط أسس المنهج الزيدي التي تختلف عن نظيره الجعفري.
فالحوثيون توافقوا مع الجعفرية في عقيدة الإمامة وأنهم منصوص عليهم ومعصومون، ولا يكونوا إلا من نسل الحسن، مخالفين بذلك الزيدية.
كما أنهم وافقوا الإمامية في تكفير معظم أصحاب النبي حيث قال كبيرهم بدر الدين الحوثي: " أنا عن نفسي أؤمن بتكفيرهم (أي: الصحابة) لكونهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وآله"، بالإضافة إلى مناصبتهم أهل السنة العداء وتكفيرهم.
فعلى إثر هذا التحول الأيديولجي للحوثيين ظهرت أطماعهم الطائفية في تنفيذ أجندة إيرانية لإسقاط الدولة اليمنية وإقامة دولتهم الشيعية بمباركة ودعم الملالي.
وقد بدأ المسار العسكري للحوثيين عام 2004 عندما تحول تنظيم الشباب المؤمن إلى ميلشيا عسكرية طائفية خاضت خمسة حروب مع الجيش النظامي خلال أربع سنوات تحت مظلة مطالب لا تستر أطماعهم الطائفية.
وقام عبد الملك الحوثي الزعيم الحالي للحركة بتوسيع نطاق النزاع المسلح بعد مقتل أخيه حسين الحوثي، حيث قام بفتح جبهات جديدة قرب العاصمة صنعاء، بدعم عسكري كبير من طهران، ثم نشبت الحرب السادسة بين الحكومة والحركة عام 2009 بسبب اعتداءات الحوثيين على الجيش وأبناء صعدة.
وقد استطاع الحوثيون أن يكونوا ندا للنظام اليمني، طوال تلك السنوات التي شهدت الحروب بين الطرفين، وذلك بفضل الدعم العسكري الإيراني، سواء بالمعدات العسكرية والسلاح، أو بالتدريب الذي يشرف عليه قادة الحرس الثوري الإيراني، حتى أصبحت شحنات السلاح الإيرانية التي يتم ضبطها وهي في طريقها إلى الحوثيين شيئا عاديا تقابله الحكومة اليمنية الضعيفة بالصراخ في المحافل الدولية، وإطلاق الإنذارات الجوفاء لطهران لتكف عن التدخل في شئون اليمن.
لماذا اليمن؟
ثمة دوافع مؤكدة للتوغل الإيراني في اليمن عن طريق الحوثيين، يتعلق أولها بموروث عقدي سائد لدى الشيعة الإمامية، حيث ورد من آثارهم ما يفيد باندلاع ثورة في اليمن تكون ممهدة لظهور المهدي، كما يقول الكوراني العاملي في كتاب عصر الظهور، من خلال ما زعم أنه أحاديث صحيحة عن آل البيت تؤكد حتمية حدوث هذه الثورة وتصفها بأنها راية هدى تمهد للمهدي وتؤكد على وجوب نصرتها بمثل تأكيدها على نصرة راية المشرق الإيرانية وأكثر، وأن عاصمتها صنعاء، وقائدها المعروف في الروايات باسم اليماني، واسمه حسن أو حسين.
ويبدو أن حسين الحوثي قد تفاعل مع تلك الآثار في ظل تقاربه مع الإيرانيين، وصار يبشر بتلك الثورة بين أتباعه، ظنا منه أنه ذلك اليماني وإن لم يصرح بذلك.
ومن أبرز أهداف إيران في تصدير الثورة للبقاع اليمنية كما يرى كثير من المراقبين، أن طهران تسعى لحصار السعودية معقل الإسلام السني، وتهديد حدودها وأمنها القومي انطلاقا من العداء الأيديولوجي، وهو ما يدفع إلى الاتجاه بالقول أن إيران كانت وراء الزحف الحوثي ناحية الحدود السعودية عام 2009، ما أدى لاشتباكات عنيفة بين الجانبين، وهو ما أكدته صحيفة الشرق الأوسط في أحد أعداد ديسمبر من نفس العام، من أن "كبار المسؤولين" من "فيلق الحرس الثوري الإيراني" و "حزب الله" اللبناني اجتمعوا مع متمردين حوثيين لتنسيق العمليات العسكرية ضد المملكة العربية السعودية.
كما أن إيران تهدف بحسب كثير من المراقبين إلى خلط الأوراق في منطقة الشرق الأوسط خاصة في هذه الآونة التي يتصاعد فيها القتال بين الحوثيين والحكومة اليمنية، لكسب تنازلات لصالح حليفها الاستراتيجي بشار الأسد من قبل دول الخليج على وجه الخصوص.
وإضافة إلى ما سبق يأتي على رأس هذه الأهداف الإيرانية، السيطرة على مضيق باب المندب ذي الأهمية الحيوية في حركة التجارة العالمية، وهو ما يرى باحثون أنه يشكل ورقة ضغط على الدول الغربية.
وكل ذلك ينظر إليه من خلال المشروع الصفوي الذي يسعى لإقامة هلال شيعي رأسه الجنوبي هو اليمن.
رؤية استشرافية لمستقبل الصراع اليمني:
هل سينجح مشروع تصدير الثورة الإيرانية لليمن متمثلا في الحوثيين وصراعهم الدموي مع الحكومة اليمنية؟
إن الإجابة على ذلك التساؤل تحتم النظر إلى جميع الأطراف المشاركة على مسرح الأحداث في اليمن، فالحوثيون يخوضون الصراع بدعم خارجي إيراني، وبتأييد داخلي من قبل نظام علي عبد الله صالح البائد، والذي يسعى لاسترداد عرشه المسلوب على أكتاف الفوضى.
غير أن الناظر إلى مآل الحوثيين بعد نيابتهم المكشوفة عن مرجعيات قم، يرى أن عدم اختلاط الأوراق وظهور طبيعة الصراع واضحا أمام الشعب اليمني، يعتقد أنه فرض نوع من الحصار المعنوي على حركة الحوثيين، مما يجعلنا نتجه بالقول بأن أفكار الثورة الخمينية محصورة في أتباع الحوثي، والتي تفتقد مسارا سلميا يمكنها من ترويج أفكار الثورة الخمينية.
وأما الرئيس المخلوع، فيعتقد أنه لا يمتلك القدرة على توجيه الدفة، لتضاءل شعبيته خاصة وأن جذور الصراع مع الحوثيين التي نبتت على عهده والاضطرابات التي شهدتها البلاد إثر ذلك لن تدع للشعب اليمني مجالا لأن يتباكى عليه ويدعمه تصحيحا لخطأ الثورة.
وأما النظام اليمني فأوراقه المباشرة وغير المباشرة تجعله أفضل حالا، فأهل السنة والتيار الإسلامي السني، خصوصا جماعة الإخوان الممثلة في حزب الإصلاح، لها جهود كبيرة في الحشد ضد الحراك الحوثي وصُنْع ظهير شعبي قوي للحكومة اليمنية، وهو أهم الأوراق التي يعتمد عليها النظام اليمني بجانب القبائل الموالية للحكومة.
ويضاف إلى ذلك أن مؤسسات الدولة بقبضة النظام بما في ذلك الجيش - وإن كان اختراقه من قبل موالين للنظام السابق قد بدأ يلوح في الأفق - الأمر الذي يمكنها من تجييش تلك المؤسسات لصالح صراعها مع الحوثيين.
ولعل الأيام القادمة تشهد تدخل طرف آخر يغير موازين القوى، وهو تنظيم القاعدة المتمثل في جماعة أنصار الشريعة في اليمن، والذي هدد بضرب اعتصامات الحوثيين، وبث شريطا عبر قناة الملاحم يظهر تفجير محلات تجارية مملوكة لحوثيين، وتحذيرات باستهداف الحوثيين في كل مكان.
ويتجه القول وفق هذه المعطيات، إلى ترجيح تعثر اكتمال المشروع الإيراني في اليمن ممثلا في حراك الحوثيين، إلا أنه من المتوقع، أن يطول أمد الصراع بين الحوثيين والنظام اليمني تتخلله كالعادة هدن ومفاوضات، ولن يحسم ذلك الصراع إلا على أرضية تغيرات في الخارطة السياسية بالمنطقة ترسم العلاقات من جديد بين دول الخليج خاصة، مع الدولة الإيرانية وحلفائها، ويتعلق الأمر إلى حد بعيد بما يسفر عنه الصراع الدائر في سوريا.
عـادل مـنـاع