لعب الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، بقبوله استقالة حكومة مانويل فالس، آخر أوراقه في رهانه الكبير على إنقاذ النصف الثاني من ولايته الرئاسية، بعدما تدنت شعبيته إلى ما يقارب 17 في المئة، وبعدما طبع النصف الأول من هذه الولاية بفشل ذريع لسياسته الاقتصادية وبتخطي البطالة عتبة 10 في المائة نتيجة فشله في إعادة تفعيل المحور الفرنسي ــ الألماني الذي كان في عهد سلفه، نيكولا ساركوزي، قوة الدفع الأساسية داخل الاتحاد الاوروبي في سياستيه الاقتصادية والخارجية.
رئيس الحكومة المستقيل تنبّه إلى هذا الخطر الناجم بالدرجة الأولى عن صراع التيارات الداخلية في ما يعرف باليسار المتعدد، أو ما أرادت الوزيرة السابقة، مارتين أوبري، وصفه باليسار المتضامن، فأطلق تحذيره من موت اليسار في يونيو/حزيران الماضي أمام المجلس الوطني للحزب الاشتراكي الحاكم.
يأخذ بعضٌ، من أركان هذا اليسار، على فالس لجوءه إلى تسويات لم تراعِ التوازنات الداخلية عند تشكيله الحكومة قبل أقل من سنة، وبعضهم الآخر يأخذ عليه عدم مراعاة حجم شركائه في هذه الحكومة، مما دفع بوزيرة الإسكان سيسيل دوفلو، وهي من حزب الخضر، إلى الاستقالة. كما أن بعضاً يأخذ على رئيس الحكومة اعتماد سياسة اقتصادية ليبرالية منفتحة على رجال الأعمال الذين أُعطوا امتيازات واسعة لتشجيعهم على خلق فرص عمل جديدة، مقترباً بذلك من سياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، خلافاً لما كان يطالب به وزير الاقتصاد، أرنو مونتبورغ، الذي كان ينادي بدعم القوة الشرائية للمواطنين، فيما لم يوفر جان لوك ميلانشون، زعيم جبهة اليسار الراديكالي، جهداً لمحاربة النهجين الاقتصادي والاجتماعي لعهد هولاند، متّهماً إياه بالتخلي عن القاعدة الشعبية واعتماد سياسة قريبة من اليمين.
خطاب ميلانشون لاقى صدى شعبياً واسعاً، بعدما دأبت أحزاب اليمين المعارض على اتهام هولاند بسرقة أفكارها ومشاريع الإصلاح التي كان أعدها ساركوزي. وبذلك، اكتملت حلقة التصويب على الحكومة ومن ورائها السياسة العامة لهولاند، الذي بدا داخل الاتحاد الأوروبي الرئيس المستضعف، فاختلّت شراكته مع ألمانيا، مما جعل زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف، مارين لوبن، تصف فرنسا بـ"رجل أوروبا المريض"، وتفردت ميركل بدور المحرك أو قوة الدفع الرئيسية داخل الاتحاد.
أما في ما يتعلق بالسياسة الداخلية للدول الأوروبية أو بسياستها الخارجية، فبدا هولاند متردداً في أخذ خيارات حاسمة فيما يتعلق بسياسة الهجرة، أو تجاه التطورات الدراماتيكية في منطقة الشرق الأوسط، والجميع يذكر تراجعه عن القيام بعمل عسكري ضد النظام السوري الصيف الماضي، بعدما تراجعت الولايات المتحدة عن تهديداتها، وتخلى عنه الرئيس باراك أوباما، وخذله رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون، بعد تصويت نوابه على عدم المشاركة في أي عمل عسكري، فيما بقيت من دون صدى حتى الآن دعوات الرئيس الفرنسي لتنظيم مؤتمر دولي لمحاربة تنظيم "داعش".
لم يبقَ لهولاند، من جميع حلفائه في الداخل وفي الخارج، إلا قلة من المحيطين به، بينهم فالس الطامح لخوض انتخابات الرئاسة بعد أقل من ثلاث سنوات. وفي غضون كل ذلك، لم يبقَ أمام هولاند إلا نصف ولايته لإعادة ترتيب أوضاع بيته الداخلي، وتحقيق نجاحات ينتظرها الفرنسيون، وتحديداً في إطلاق عجلة الاقتصاد، الهم الأول للمواطن.
وكانت استقالة حكومة فالس قد خلقت سيلاً من ردود الفعل. وكما يحدث في كل استحقاق، تستغل الأحزاب السياسية أية حجة لتبادل الاتهامات. وبالفعل، فقد سارعت قوى المعارضة إلى انتقاد هولاند وتحميله مسؤولية الأزمة. ودعت أطراف عدة إلى حل البرلمان، وهي دعوة من المستبعد أن تتم الاستجابة لها. كما أن هولاند يدرك أنه ليست لديه مصلحة في حل البرلمان حالياً، لأن أي انتخابات جديدة ستؤدي إلى خسارته الأغلبية، وعليه سيضطر للتعايش مع اليمين، وهو موضوع يرغب اليسار في البقاء بعيداً عنه في مطلق الأحوال كونه يعني عملياً فقدانه السلطة، والبقاء كمجرد رئيس صُوري محدود الصلاحيات.
قبل ثلاثة أيام، قال هولاند "لو كنت مؤمناً أن سياستي غير ناجعة، لغيّرتها". فهل وصل إلى هذه القناعة اليوم؟
-