انتهت المعركة العسكرية في عرسال اللبنانية. أوقفها المعنيون وجنّبوا البلدة المزيد من الضحايا العسكريين والمدنيين، رحموا منازلها ومخيّمات اللجوء السورية فيها وقرروا وقف إطلاق النار.
لم يفهم أحد سبب إنهاء القتال، تماماً كما لم يُفهم سبب "التصعيد" المفاجئ الذي طرأ على المنطقة وألهبها. والمحصلة 17 قتيلاً للجيش اللبناني وعشرات المدنيين اللبنانيين والسوريين، لم تنشغل الدولة بإحصائهم بعد.
جميعهم سقطوا بمبرر "تطهير الأرض من الإرهاب"، إنما فعلياً، انسحب "الإرهاب" بنفسه من دون أن يُطهّر. لا بل اكتسب شرعية رسمية بوجوده من خلال التفاوض غير المباشر معه من قبل الدولة اللبنانية.
كما خلّفت المعركة مشهد دمار واسع في عرسال، ممنوع على الكاميرات التقاطه وتصويره حتى الساعة. ففي اليوم الأول الفعلي للهدنة وانسحاب مقاتلي المجموعات المسلحة من عرسال، لا يزال الطوق الأمني مفروض على البلدة من قبل الجيش اللبناني. حواجز استخبارات الجيش تمنع الصحافيين من الدخول. تأذن لهم في الوجود على بعد أكثر من كيلومترين من المدخل الرسمي الوحيد إلى ساحة المعركة.
وعلى طول تلك الطريق، تتجوّل آليات الجيش وشاحناته ذهاباً وإياباً. يستعرض الجنود أمام عدسات الكاميرات، فيرفعون رايات النصر حيناً، ويتنفسّون الصعداء حيناً آخر لكون الأبواب أقفلت أمام حرب استنزاف جرى ختمها.
المفاوضات المستمرة
تستمرّ هيئة العلماء المسلمين في تسيير التواصل غير المباشر بين الدولة اللبنانية والمجموعات المسلحة. فالعقدة الأساسية تكمن في الجنود وعناصر قوى الأمن الذين اختطفهم المسلحون.
وبحسب أحد أعضاء الهيئة: "طلبت منّا قيادة الجيش معرفة عدد العناصر المحتجزة لدى المجموعات المختلفة". يوضح هذا الطلب حجم المأزق الذي وقع فيه الجيش، الذي لم يتمكن من تحديد عدد عناصره المحتجزين! وما زاد الطين بلّة رسائل خرجت عن مجموعة أبو أحمد جمعة، الذي أدى توقيفه من قبل الجيش إلى تفجّر الوضع في عرسال، والتي تقول إنها تحتجز 19 جندياً، في حين تقول جبهة النصرة إن لديها 30 عنصراً.
وبينما يسيطر الضياع على هذا الملف، يؤكد المطلعون على أجواء الهيئة أنّ "المجموعات المسلحة لا تجد مانعاً في إطلاق سراح عناصر قوى الأمن، بينما يصعب تحرير عسكريي الجيش".
وفي وقت لم ينقطع فيه التواصل بين الأطراف الثلاثة، لا تزال الدولة اللبنانية خارج عرسال البلدة. انسحب "داعش" وأخواته من الشوارع العرسالية وأعادوا انتشارهم في مناطق جردية مختلفة، منها في "وادي الديب" وأخرى في منطقة "مدينة الملاهي".
لم تبتعد هذه المجموعات كثيراً، إذ لا تزال تنتشر في محيط الثكنات والمراكز التي أعاد الجيش استلامها في وادي حميد وعقيبة الجسر. إلا أنّ الجيش والقوى الأمنية الرسمية لم تعد إلى عرسال، بينما أكد بيان صادر عن قيادة الجيش "إعادة تمركز الوحدات عند المدخل الغربي لعرسال" فقط.
عودة النازحين العرساليين
إلا أنّ أبواب عرسال فُتحت للعائلات التي نزحت عنها في الأيام الستة الماضية. رجع هؤلاء بالمئات إلى بلدتهم بعدما نزحوا إلى قرى في البقاعين الشمالي (شرقي لبناني) والأوسط هرباً من القصف.
حملت شاحنات وسيارات مدنية نساءً وأطفالاً وعادت بهم إلى منازلهم. يقول معظمهم إنّ "الخوف كان على الأطفال من القذائف والنيران التي لحقت بالبلدة". وهم قرروا إنهاء حال التشّتت بعدما هدأت الحال. جالت هذه السيارات بهدوء كما فعلت وهي خارجة من عرسال. لم يعترضها أحد من أبناء اللبوة، حتى أنّ أحد العرساليين أكد، لـ"العربي الجديد"، أنّ "عناصر من حزب الله عرضت عليهم إيواءهم في حال تعذّر وجود مكان يلجأون إليه".
ترهيب "داعش"
لم يفهم العرساليون سبب تعرّض الأحياء السكنية للاستهداف بالقذائف، ولو أنّه كان واضحاً أنّ المسلحين استخدموهم دروعاً بشرية واتخذوا من بعض مخيمات اللجوء السوري مراكز. وقع الأهالي بين نارين: نار المسلحين ونار الدولة. كانت فصائل المعارضة تجول في بلدتهم وتفرض أمراً واقعاً جديداً.
عمّم هؤلاء المقاتلون منطق الرعب مجدداً، مستخدمين لغة القتل، كما فعلوا مع الشاب محمد قاسم الفليطي، الذي جرت تصفيته بدم بارد أمام باب منزله. زرع المسلحون رصاصة في رأس الفليطي بلا سبب. لم يتعرّض لهم ولم يحتج على شيء. "لم يعجبهم مظهره الخارجي"، بحسب ما يقول أحد العرساليين، فانضمّ إلى قافلة ضحايا إرهاب "الدولة الإسلامية".
يبدو هذا الترهيب واضحاً في حديث أبناء عرسال. يتحايلون على أي سؤال يوجه عن ممارسة مقاتلي "داعش"، فلا يجيبون ولا يعلّقون. هم يريدون العودة إلى بلدتهم فقط من دون الاضطرار إلى تحسّس رقابهم ليل نهار. لا يذكرون حادثة قتل الفليطي ولا تلك التي سبقتها، كتصفية مصطفى نجيب عز الدين ونجله، أو حتى قتل بعض النازحين السوريين لـ"أسباب أخلاقية خاصة بدولة الخلافة".
يفضّل بعض أبناء عرسال ذكر أنّ مقاتلي "داعش" أعادوا فتح أحد الأفران لتوزيع الخبز على المواطنين في زمن المعركة. كالجلاد الذي يطعم ضحيته لإبقائها على قيد الحياة ويستلذّ أكثر في تعذيبها. فقد يكون في هذا الاستذكار نمطاً جديداً من "متلازمة ستوكهولم"، مع العلم أنّ معظم أهالي عرسال يؤكدون أنهم ليسوا في حاجة لغذاء أو طعام، حتى المساعدات الإنسانية التي وصلت لم تعنهم. هم قادرون على الصمود اقتصادياً أكثر من ذلك بكثير، إلا أنهم بحاجة إلى الكثير من الأمن، وإلى تقرير يجب أن يصدر عن الهيئة العليا للإغاثة لتوثيق الدمار رسمياً.