سؤال الفتوى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بعض التجار وشركات المستلزمات الطبية يرفعون الأسعار وخاصة شركات الأكسجين ، لأنها تستعمل الأن بكثرة في ظل جائحة كورونا ؟
فما حكم هذه الشركات؟ جزاكم الله خيراً
جواب الفتوى >
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أولاً:
هذا الفعل من الاحتكار المحرم شرعاً، بل ومن الاعتداء على النفس التى حرم الله قتلها إلا بالحق، فأرتفاع الأسعار واحتكارها سبب من أسباب عدم قدرة المريض على شرائها وممكن أن يؤدي ذلك إلى موته. والناظر في الشريعة الإسلامية يجد أنها يسرت للناس سبل التعامل بالحلال لكي تكون أجواء المحبة سائدة بين الأفراد، ولكي تبقى الحياة سعيدة نقية، لا يعكر صفوها كدر ولا ضغينة، ومن أجل هذه الأهداف السامية حرم الإسلام الاحتكار لما فيه من تضييق على عباد الله.
ثانيا:
أما عن الاحتكار لقد عرف الفقهاء الاحتكار بعدة تعريفات منها:
قالوا: " الاحتكار شرعاً اشتراء الطعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء أربعين يوماً لقوله صلى الله عليه وسلم : " من احتكر على المسلمين أربعين يوماً ضربه الله بالجذام والإفلاس" وهذا قول الحصفكي من الحنفية في شرح الدر المنتفي.
وقالوا: " هو الادخار للمبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق أمام الادخار للقوت فليس من باب الاحتكار " وهذا قول الباجي من المالكية.
وقالوا: " أنه اشتراء القوت وقت الغلاء ليمسكه ويبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق" وهذا قول الرملى من الشافعية.
وقالوا: والاحتكار المحرم ما اجتمع فيه ثلاثة شروط:
أحدها: أن يشترى فلو جلب شيئاً أو أدخل من غلته شيئاً فأدخره لم يكن محتكراً.
الثاني: أن يكون المشترى قوتاً، فأما الإدام والحلواء والعسل والزيت وأعلاف البهائم فليس فيها احتكار محرم .
الثالث: أن يضيق على الناس بشرائه ولا يحصل ذلك إلا بأمرين:
أحدهما: أن يكون فى بلد يضيق بأهله الاحتكار كالحرمين وبالثغور.
الثانى: أن يكون فى حال الضيق بأن البلد قافلة فيتبادر ذو الأموال فيشتريها" وهذا ما ذهب إليه ابن قدامة الحنبلي.
ثالثاً:
أما عن حكم الاحتكار اختلف الفقهاء فى حكم الاحتكار على مذهبين :
المذهب الأول : أن الاحتكار محرم :وهذا مذهب جمهور الفقهاء منهم الحنابلة و المالكية ، والشافعية على الصحيح عندهم ، والظاهرية ، وغيرهم .
ودليل ذلك من الكتاب: قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) الحج: 25.أي المحتكر بمكة. فالاية دالة على وصف المحتكر بالإلحاد والظلم، وتوعده بالعذاب الاليم . وقوله تعالى: ( تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ) الاحزاب:14. فالآية دلالة في النهي عن جمع المال وكنزه وعدم إخراجه. وقوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) الحشر: 7. فمن الواضح أن الإحتكاريجعل المال خاصاً في تداوله بين الأغنياء دون الفقراء، نظراً لما يستدعيه من ارتفاع الأسعار بما يعجز معه الفقير عن الشراء. وقول تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) التوبة: 34. وقوله تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) الفجر:20 وقوله تعالى: (مناع للخير معتد أثيم) القلم: 12. فإن هذه الآيات القرآنية بمجموعها تدل دلالة واضحة على تحريم كل ما تعلق بالحكر والشح ، وجمع المال دون نظر إلى الفقراء والمحتاجين، ومن الواضح أن الاحتكار من أجلى مظاهر ما تحدثت عنه هذه الآيات ونهت وذمت .
دليل ذلك من السنة:
1ـ عَنْ معمر بن عبد الله، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: "لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ " اخرجه مسلم.
2ـ وعن ابن عمر ،عن النّبي صلى االله عليه وسلّم قال: "من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من االله". مسند أحمد وإسناده ضعيف.
3ـ عن عمر رضي اللَّه عنه ،عن النَّبيّ صلى اللَّه عليه وسلم قال: " الجالِبُ مرزُوقٌ والمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ ". أخرجه الدارمي.
المذهب الثانى : أن الاحتكار مكروه
وهذا مذهب جمهور الحنفية، وبعض الشافعية ، حيث عبروا عنه بالكراهة إذا كان يضر بالناس . وقد استظهر المحقق الأصفهاني من كلمات الفقهاء أن الموضوع المحكوم بالحرمة عند جماعة هو المحكوم بالكراهة عند الآخرين. و المحكوم بالحرمة هو حبس الطعام مع حاجة الناس إليه ، فهو المحكوم بالكراهة عند من يقول بكراهة الاحتكار.
أدلة القائلين بالكراهة:
1ـ عن عمر رضي اللَّه عنه ،عن النَّبيّ صلى اللَّه عليه وسلم قال: " الجالِبُ مرزُوقٌ والمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ " أخرجه الدرامي . ومن الواضح دلالة هذه الأخبار على التحريم، فان اللعن دعاء بالبعد عن االله سبحانه و تعالى، والبعد عن االله يتحقق على مراتب من جملتها المرتبة الناشئة من فعل المكروه، فلا ينحصر البعد عن االله تعالى بفعل المحرم.
2ـ قصور الروايات الواردة في تعداد ما يجري في الاحتكار من ناحية السند والدلالة لا تقوى بالتحريم، كما لا تنتهض لأن تكون دليلاً عليه.
أجيب عن هذا بتصريح الحنفية بالكراهة على سبيل الإطلاق ينصرف إلى الكراهة التحريمية، وفاعل المكروه تحريماً عندهم يستحق العقاب كفاعل الحرام.
3- أن الناس مسلطون على أموالهم وتحريم التصرف حجر عليهم.
أجيب عن هذا: بأن حرية المالك في ملكه مطلقة ما لم يترتب على ذلك إضراراً بالآخرين؛ إذ لا ضرر ولا ضرار، والضرر يزال، ودر المفاسد مقدم على جلب المصالح.
المذهب المختار: هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء بتحريم الاحتكار في كل شيء يضر بالناس حبسه وهم في حاجة إليه.
رابعاً:
على ولي الأمر أن يمنع هذا الاحتكار ويقوم بعدة إجراءات منها:
أولاً: إجراءات الحاكم الوقائية والعلاجية التى نص عليها الفقهاء:
هناك اجتهادات للأئمة تستند لمبدأ سياسة التشريع في الإجراءات والتدابير، لتتخذها سلطة الدولة الإسلامية (الحاكم) في مقاومة الاحتكار، تأييداً لمنعه ومنها الآتي:
1ـ جبر المحتكر على إخراج المادة المحتكرة المخزونة، وطرحها في السوق، ليبيعها لإزالة هذا الظلم ، بالسعر التلقائي الحر الذي كان سارياً قبل الاحتكار، مع زيادة يتغابن الناس في مثلها عادة، إزالة للظلم عن الناس، وتحقيقاً للربح المعقول للتاجر، توفيقاً وتنسيقاً بين المصلحتين.
2- البيع على المحتكر إذا تمرد: إذا أصر المحتكر – تعنتاً أو تمرداً – على الامتناع عن البيع بالسعر التلقائي في السوق الذي يحدده قانون العرض والطلب، تولى الحاكم – أو نوابه – بيع سلعه نيابة عنه، وبالسعر الذي كان سارياً قبل الاحتكار عدلاً، حتى لا يُضار هو ولا الناس.
3- حرمان المحتكر من الربح، وأخذه منه عقوبة ومعاملة له بالنقيض: هذا ضرب من التغريم بالمال عقوبة تعزيرية على معصية الاحتكار.
أما المعاملة له بالنقيض، فلأن نيته السيئة في الاستغلال، ونزعته المفرطة في الربح تقتضي ذلك، وهذه العقوبة قررها الفقهاء سياسة، إذ لم يرد نص بخصوصها منعاً للاستغلال المحرم، لأنه من الكبائر فهو كالربا، كسب خبيث بالانتظار والتربص.
4- مصادرة الحاكم للمال المحتكر إذا خيف الهلاك على أهل البلد، وتفريقه عليهم:
5- تنظيم الاستهلاك، بتوزيع المواد الغذائية وغيرها بالقسطاس المستقيم عدلاً: ذهب المالكية إلى أنه لا يجوز لأحد أن يشتري من السوق – وقت الضيق – ما يضيّق به على المسلمين، فلا يشتري إلا قوت أيام أو أشهر، أو أقل حسب الأحوال، وأما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه كان يدخر لعياله قوت سنة، فمحمول على حال السعة، وهذا ما نقله القاضي عياض عن أكثر العلماء.
6- منع التصدير إذا أضر بالناس: لا يجوز للدولة أن تصدر أي مادة أساسية ضرورية تمس حاجة الناس إليها، ولاسيما ما يتعلق منها بالغذاء والكساء، لأن التصدير إذا أضر بالعامة كان في معنى الاحتكار من حيث الأثر.
قال الدكتور فتحي الدريني رحمه الله: يجب إذا ازداد وفرة بحيث يغطي أضعاف حاجات الناس، حفظاً على المال الذي هو ضروري الحفظ.
7ـ منافسة الحاكم للمحتكرين: من الاجتهادات التى رآها بعض الخلفاء الأوائل، توسيعاً على الناس ورفقاً بهم، هي منافسته للمحتكرين، لئلا يبسطوا نفوذهم، فلا يستطيعون عندئذ تنفيذ مآربهم الشخصية. فكان الخليفى ببغداد إذا زاد السعر يأمر بفتح المخازن، ويبيع بأقل مما تبيع الناس، حتى يرجع الناس إلى ذلك السعر، ثم يأمر أيضاً أن يباع بأقل من ذلك حتى يرجع السعر إلى أوله أو إلى القدر الذي يصلح بالناس، ويغلب الجالبين والمحتكرين بهذا الفعل قسراً، فيدفع عن المسلمين ضراً، وكان ذلك من حسن نظره عفا الله عنه. ومن ذلك ما قام به الخليفة المقتدر بالله العباسي، حين تظلم الناس من زيادة الأسعار، وهاجوا ونهبوا دكاكين الدقاقين، وضجوا بوجه علي بن عيسى وحامد بن العباس وزيري المقتدر وصاحب الشرطة وغيرهم الذين اضطروا إلى مقاومة هذا الهياج، فضرب قسم بالسياط، وقطعت أيدي قوم عرفوا بالإفساد. فأمر المقتدر بالله بفتح الدكاكين والبيوت التى لحامد وللسيًدة والأمراء أولاد الخليفة والوجوه من أهل الدولة، وبيع الحنطة بنقصان خمس دنانير في الكُرً، وبيع الشعير بحسب ذلك، وبمطالبة التجار والباعة أن يبيعوا بمثل هذا السعر.
ثانياً: إجراءات الحاكم بشأن المحتكرين في القانون:
بعد أن بينًا إجراءات الحاكم الوقائية والعلاجية التى نصً عليها الفقهاء المسلمون لابد من بيان موقف أرباب القانون وما اتخذوه من إجراءات للحد من نشاط المحتكر، الذي يظهر واضحاً في عقود الإذعان. وهذه العقود تبرم بين أفراد طبقتين من الناس: طبقة ضعيفة اقتصادياً، وأخرى قوية اقتصادياً، وفيها لا تستطيع الطبقة الضعيفة أن تناقش شروط العقد، بل هي حرة في قبول العقد برمته أو رفضه برمته. وعقود الإذعان إذا تضمنت شروط تعسفية وجب على وليِّ الأمر التدخلُ بتعديلها أو ببعض الاجراءات وَفقَ مقتضَيات المصلحة والعدل، والسلطة التقديريَّة في ذلك للحاكم المسلِم، أو مَن يقوم مقامه .