ان المتأمل في هذا الركن العظيم من أركان الإسلام ليجد أن هنالك العديد من الدروس والعبر , فإن الحج تجتمع فيه مختلف أنواع العبادات البدنية والمالية ؛ فيحج الحاج بنفسه ويؤدي العبادة من طواف وسعي ووقوف بعرفة ومبيت بمزدلفة ورمي للجمار وغير ذلك من أعمال الحج ويدفع الحاج ماله من أجل ذلك كما أنه يدفع ماله من أجل ذبح الهدي إن كان متمتعاً أوقارناً ، ويمكن استخلاص أبرز تلك الدروس والعبر المستفادة من الحج فيما يلي :
1- تحقيق تقوى الله عز وجل بتوحيده :
فإن المسلم بأدائه هذا الركن العظيم يحقق التقوى التي أمره الله تعالى بالتزود منها بعدما نهى عباده عن فعل المعاصي والآثام وأمرهم باجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج فقال سبحانه وتعالى : { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب } [ سورة البقرة:197] .والتقوى لا تكون إلا بتوحيد الله عز وجل وذلك بإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة وعدم إشراك أحداً مع الله تعالى في عبادته , وهذا يتجلى واضحاً في الحج فإن الحجاج يجيبون رباً واحداً قائلين لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك . وهذا هو التوحيد ؛ فإن معنى لبيك لا شريك لك لبيك أي:استجابة لك وحدك فإنه لاشريك لك في عبادتك .
وهذا درس للمسلمين في كل مكان يوضح وجوب تحقيق التوحيد بعبادة الله تعالى وحده ؛ وعدم دعاء غير الله من الأولياء أو الأموات أو غيرهم من المخلوقين فإن ذلك يوقعهم في الشرك الأكبر المخرج من الإسلام .
2- الحج يحقق وحدة المسلمين وقوتهم :
فإن الحجاج إلى بيت الله الحرام تختلف بلدانهم ولغاتهم وألوانهم لكن يجمعهم شيء واحد هو الإسلام فيجتمعون في الحج وتبلغ أعدادهم ملايين الأشخاص وينتقلون من مشعر إلى مشعر في منظر يشعر بالرهبة ويدل على أن قوة المسلمين هي في اجتماعهم على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا يغيظ الشيطان كما ورد ذلك عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم فما رئي الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أذل منه في يوم عرفه إلا ما رئي منه يوم بدر وهذا يغيظ أعداء الرحمن وأولياء الشيطان .
وفي هذا درس للمسلمين بأهمية الاجتماع ونبذ التفرق والاختلاف فإن الخلاف شرّ والاجتماع خير وقد أمرنا ربنا جل وعلا في كتابه الكريم بالاجتماع فقال سبحانه : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }[ ال عمران : 103 ] وقال سبحانه : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } [ سورة الأنفال : 46 ] .
3- الحج يبرز الأخوة الإسلامية :
فإن الأخوة بين المسلمين تَبْرزُ بشكل واضح في الحج وتختفي الفوارق بينهم . وُيرى بشكل واضح التعاون والتآلف والمحبة في أروع صورها فنجد أن القوي يعين الضعيف وربما حمله إن كان يستطيع حمله ونجد أن من يمتلك الطعام يطعم من لا طعام لديه وكم هو مبهج ومفرح أن يرى المسلم مجموعات من الشباب والشيب وهم يستقبلون إخوانهم في مزدلفة بعد نفورهم من عرفة ويقدمون لهم الماء والعصير والطعام وهم يرددون ( سبيل يا حاج ) ولا يعرف بعضهم بعضاً إلا بأنهم مسلمون فقط فيرتسم في مخيلة كل مسلم ومسلمة حديث نبينا الكريم الذي حفظه الجميع وهو قوله عليه الصلاة والسلام :{ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر }.( رواه مسلم )
4- الإحرام يذكر بالكفن :
فإنه كما من المعلوم أن الرجل المسلم يُحرم في إزار ورداء ويسن أن يكونا أبيضين ويجب عليه قبل الإحرام أن يخلع المخيط فلا يلبس إلا هذا الرداء وذلك الإزار , ويستحب له الاغتسال والتطيب في بدنه قبل لبس ملابس الإحرام وهذا يذكر بالميت عند تغسيله وتكفينه فإنه عند موت المسلم يغسل ويطيب ويكفن بكفن ويستحب أن يكون أبيض كذلك , غير أن هناك ثمة فرق بين الحاج والميت فالحاج يستطيع أن يتوب ويدعو ربه ويتزود من العمل الصالح وأما الميت فهيهات هيهات وكذلك الحال بالنسبة لغير الحاج فباب التوبة مفتوح مادام أن الإنسان لا يزال حياً ما لم يحل به الموت فإنه لا تقبل التوبة عند الغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم .
5- الحج يذكر بيوم القيامة:
فإن مسير الحجاج من منى إلى عرفات ومن عرفات إلى مزدلفة ثم إلى منى وهم يسيرون في وقت واحد وفي اتجاه واحد يذكر المسلم بيوم القيامة فلقد شبه الله تعالى مسير الناس يوم القيامة بأنهم يسيرون وكأنهم يتجهون إلى علم أو راية فقال سبحانه :{ يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون *خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون }[ سورة المعارج :43-44 ] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ( أي :يقومون من القبور إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ينهضون سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون ,قال ابن عباس ومجاهد والضحاك :إلى علم يسعون , وقال أبو العالية ويحيى بن كثير :إلى غاية يسعون إليها ) [1]. ومما لاشك فيه أن الموقف هنا يختلف فالحجاج لا ينتابهم خوف ولا هلع بينما يوم القيامة يبلغ بهم الخوف والهلع غايته إلا من استثناه الله تعالى من عباده المؤمنين .ولهذا وصف الله تعالى حال الناس يوم القيامة حين يرون القيامة بأنهم كالسكارى من شدّة خوفهم فقال سبحانه وتعالى :{ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم *يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } [سورة الحج :1-2].
6- الحج والتأكيد على مخالفة المشركين :
لم يقتصر أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على تحقيق التوحيد في التلبية فقط بل تعدى إلى الأمر بمخالفة المشركين فيما كانوا يفعلونه عند حجهم . فلقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلبية المشركين بما كانوا يزيدونه في التلبية بقولهم :لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .وخالفهم عليه الصلاة والسلام في عدة مواضع منها أنه تجاوز الوقوف بمزدلفة ووقف في عرفات بأمر من ربه عز وجل .قالت عائشة رضي الله عنها :( كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحُمس وكان سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله- تعالى – نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها وذلك قوله عز وجل :{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } [ سورة البقرة :199] (متفق عليه) . ثم خالف عليه الصلاة والسلام المشركين عند دفعه من مزدلفة وذلك بدفعه بعدما أسفر جداً وقبل طلوع الشمس مخالفة لقريش الذين كانوا ينتظرون طلوع الشمس ويقولون :أشرق ثَبِيْر كيما نُغير .ويقصدون بذلك جبل ثبير لأن الشمس تشرق من خلفه كما خالف النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بعدم النزول في وادي مُحسّر وذلك لأن الله تعالى قد حبس الفيل في هذا الوادي ولأن قريشاً كانت تنزل فيه وتفتخر بأنسابها وأحسابها فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الصحابة بالإسراع ولم ينزل في الوادي ولم يفعل ما كانت تفعله قريش .وهذا يدعو كل مسلم ومسلمة إلى الاعتزاز بدينه ومخالفة المشركين في أعمالهم .
7- الحج يعلم الصبر على طاعة الله:
لكي يؤدي الحاج حجه فإنه يعرض له الكثير من المشقة والتعب ويواجهه الكثير من الزحام والبقاء مدة طويلة في الانتظار وهذا يعودّه على الصبر على طاعة الله عز وجل لاسيما والمسلم مأمور بالصبر على طاعة ربه عز وجل وهي أعظم أنواع الصبر الثلاثة [2].وقد أمر ربنا - تبارك وتعالى -عباده بالصبر فقال : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } [ سورة ال عمران :200] وقال سبحانه وتعالى حاثاً عباده المؤمنين على الصبر :{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ سورة الزمر :10] .وهذا الأمر يدعو كل مسلم إلى الصبر على طاعة الله تعالى في كل وقت حتى يفوز بالنعيم المقيم في جنات النعيم.
8- الحج يعوّد المسلم على الدعاء :
فإن الله قريب يجيب دعاء السائلين ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فضل الله تعالى كبير وأنه سبحانه وتعالى يستجيب دعاء السائلين ويعتق عباده في يوم عرفة أكثر مما يعتقهم فيما سواه من الأيام فعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة ) [ رواه مسلم ] ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الدعاء خصوصاً في يوم عرفة فقال :( خير الدعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) [ رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 3274].
وإن اعتياد الحاج على الدعاء في هذه الأيام يجعله يعتاده فيما بعد ويشجع غير الحاج على دعاء الكريم سبحانه الذي وعد بإجابة الداعين فقال : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون }[ سورة البقرة :186]
9- الحج يكفر الذنوب ويوجب دخول الجنة :
وهذا درس عظيم وفائدة جليلة تدل على فضل الكريم سبحانه فأما تكفير الحج للذنوب فلقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :( تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد ) [ رواه ابن ماجة والإمام أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 2899] وفي رواية للنسائي بسند صحيح ( فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد ) وفي رواية له أيضا وللترمذي والإمام أحمد بسند صحيح (فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ) . ويدل أيضاً على تكفير الحج للذنوب قول النبي صلى الله عليه وسلم :( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) [متفق عليه] .ويرى جمهور العلماء وهو الصحيح إن شاء الله أن المغفرة مقتصرة على صغائر الذنوب بينما يرى بعضهم أنها تشمل حتى كبائر الذنوب .
وأما كون الحج سبب لدخول الجنة فلقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) [ متفق عليه ] .ومن كرم الكريم سبحانه أنه يقبل الحج حتى من الصبي الصغير ويثيبه على ذلك وإن كان يلزمه أن يحج بعد البلوغ , لقول السائب بن يزيد رضي الله عنه : ( جج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين ) [ رواه البخاري ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالرَوحَاء فقال :( من القوم؟ ) قالوا :المسلمون .من أنت؟ قال :رسول الله ,فرفعت امرأة صبياً فقالت :ألهذا حج ؟ قال :نعم ولك أجر ) [رواه مسلم ] وهذا بلا شك يدعو المسلمين إلى التنافس في الأعمال الصالحة والاستكثار من عمل الخير رغبة فيما عند الكريم سبحانه وتعالى .
أسأل الله جل وعلى ان يكتب لنا الحج والعمرة و أن يرزقنا التبصر والاعتبار والاستفادة مما في هذا الركن العظيم من الدروس والعبر الكثيرة إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم وأساله سبحانه ان يكتب لنا الحج والعمرة .