الحمد لله الذي أحل لنا الحلال وحرم علينا الحرام وبينه وحفظ لنا الدين وأظهره ومن علينا بالعقل وزينه وجعله منبت التكليف والزامه وهدانا إلى الصراط المستقيم على يد سيد الأولين والأخرين النبي الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته وأصحابه الطاهرين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
وبعـــــــــــد
إنه في مزدحم شئون الحياة ومشاغلها وفي دوامة قضايا الأمة ومتغيراتها يتنافس كثيرون إلى مقصد من مقاصد شريعتنا الغراء وهو الأخوة الإسلامية والوحدة الدينية فيحلون محل الاجتماع والائتلاف، التفرق والاختلاف، وهذه الظاهرة هي ظاهرة تصنيف الناس وداء التشكيك بالآخرين وعدم الثقة بهم أو تأويل أقوالهم وحمله على محمل الظن والسوء فألقو جلباب الحياء وشغلوا الأمة عن كبير قضاياها، وألبسوا الجميع أثواب الجرح والقدح، وتدثروا بشهوة الحكم على الناس ونسج الأحاديث والحكايات والتعلق بالظنون والأوهام والتهجم على الأخرين والتبجح على الشرع والدين في فوضى فكرية عارمة، فيركبون سبب التصنيف لثالثه أمور إما للتشهير والتضليل والصد عن سواء السبيل،فغمسوا ألسنتهم في ركام من الآثام ثم بسطوها بإصدار الأحكام وإلصاق التهم والحط من الأخرين في جرأة عجيبة وفي قاموس لا ينتهي من التصنيفات.
فأهل السنة يمتحن بمحبتهم فيتميز أهل السنة بحبهم، وأهل البدعة ببغضهم:
وقال الحافظ ابن عساكر -رحمه الله تعالى-
(تبيين كذب المفتري ص/29):
"واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء -رحمة الله عليهم- مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم..". وانظر: ما ثبت في "الصحيحين" عن جابر -رضي الله عنه- [أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم]. هذا وهم أهل بيت الرجل وخاصته فكيف بغيرهم؟
ومن طرائقهم:
ترتيب سوء الظن:
وحمل التصرفات قولا، وفعلا على محامل السوء والشكوك..
ومنه:
التناوش من مكان بعيد لحمل الكلام على محامل السوء بعد بذل الهم القاطع للترصد، والتربص، والفرح العظيم بأنه وجد على فلان كذا، وعلى فلان كذا.
ومتى صار من دين الله: فرح المسلم بمقارفة أخيه المسلم للآثام.
ألا إن هذا التصيد، داء خبيث متى ما تمكن من نفس أطفأ ما فيها من نور الإيمان، وصير القلب خرابا يبابا، يستقبل الأهواء والشهوات، ويفرزها. نعوذ بالله من الخذلان.
ومن هذا العرض يتبين أن: "ظاهرة التصنيف" تسري بدون مقومات مقبولة شرعا، فهي مبنية على دعوى مجردة من الدليل، وإذا كانت كذلك بطل الإدعاء، واضمحلت الدعوى، وأصبحت غير مسموعة شرعا، وآلت حال المدعي إلى مدعى عليه تقام عليه الدعوى بما كذب وافترى وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [لو يعطى الناس بدعواهم..] الحديث.
وكأن ابن القيم -رحمه الله تعالى- شاهد عيان لما يجري في عصرنا إذ يقول (الداء والدواء: ص/187): (ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك.
ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين، والزهد، والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب.
وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول) انتهى.
أما السبب الثاني
"داء الحسد والبغي والغيرة"
وهي أشد ما تكون بين المنتسبين إلى الخير والعلم، فإذا رأى المغبون في حظه من هبوط منزلته الاعتبارية في قلوب الناس، وجفولهم عنه، بجانب ما كتب الله لأحد أقرانه من نعمة -هو منها محروم-، من القبول في الأرض، وانتشار الذكر، والتفاف الطلاب حوله، أخذ بتوهين حاله، وذمه بما يشبه المدح، فلان كذا إلا أنه..
وقد يسلك -وشتان بين المسلكين- صنيع المتورعين من المحدثين في المجروحين كحركات التوهين، وصيغ الدعاء التي تشير إلى المؤاخذات، والله يعلم أنه لا يريد إلا التمريض، يفعل هذا كمداً من باب الضرب للمحظوظين بوساوس المحرومين. وكل هذا من عمل الشيطان. ومن هنا تبتهج النفس بدقة نظر النقاد؛ إذ صرفوا النظر عما سبيله كذلك من تقادح الأقران.
ولهذا تتابعت كلمات السلف كما روى بعضا منها ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- بأسانيده في (جامعه) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ومالك بن دينار، وأبي حازم، -رحمهم الله تعالى- ومنها: "خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض، فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة ".
وعن أبي حازم: "العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يزه عليه حتى كان هذا الزمان، فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه، فهلك الناس".
وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه حواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عمته: الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: [دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء، البغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم: أفشوا السلام بينكم].
أما السبب الثالث
"عداوة دنيوية"
فكم أثارت من تباغض وشحناء، ونكد، ومكابدة. فهؤلاء دائما في غصة من حياتهم، وتحرق على حظوظهم، ولا ينالون شيئا.. "وإنما أهلك الناس الدرهم والدينار". واللبيب يعرف شرح ذلك.
وعلى كل حال فإن الهوى هو الذي يحمل الفريقين على هذه الموبقات، وقد يجتمع في الإنسان أكثر من دافع.وأشدهم طوعا للهوى، أكثرهم إغراقا في هذه الدوافع؛ إذ إن إصدار أي حكم لا يخلو من واحد من مأخذين لا ثالث لهما:
1- الشريعة:
وهي المستند الحق وموئل "العدل"، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
2- الهوى:
وهو المأخذ الواهي الباطل المذموم، ولا يترتب عليه حق أبدا.
والهوى: نعوذ بالله منه هو أول فتنة طرقت العالم، وباتباع الهوى ضل إبليس، وبه ضل كثير من الأمم عن اتباع رسلهم وأنبيائهم كما في قصص القرآن العظيم، ولهذا حكم الله وهو أعدل الحاكمين أنه لا أحد أضل ممن اتبع هواه،
فقال سبحانه: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}.
وقال تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (ص:26).
ولذلك قيل للمائلين عن سبيل القصد "أهل الأهواء"؛ وذلك لاتباعهم الهوى، أو لأنها تهوي بأهلها في النار.
* وإذا كان أهل الأهواء قد نجحوا في نفثتهم المحمومة هذه، ففتح الأغرار بها كوة على علمائهم، فإن اللادينيين قد حولوها إلى باب مفتوح على مصراعيه، فألحقوا كل نقيصة، وسخرية في كل متدين وعبد صالح، وأما العلماء فقد جعلوهم
"وقود البلبلة وحطب الاضطراب". الانشقاق بها:
* وإذا كانت هذه الظاهرة مع شيوعها، وانتشارها، واهية السند، معدومة البينة، فمن هو الذي تولى كبرها، ونفخ في كيرها، وسعى في الأرض فسادا بنشرها، وتحريك الفتن بها، والتحريش بواسطتها؟؟؟
والجواب:
هم أرباب تلك الدوافع، ولا تبتعد فتبتئس نعوذ بالله من أمراض القلوب.
والنفس لا تتقطع حسرات هنا، فإن من في قلبه نوع هوى وبدعة، قد عرفت هذه الفعلات من جادتهم التي يتوارثونها على مدى التاريخ، وتوالي العصر، وقد نبه على مكايدهم العلماء، وحذروا الأغرار من الاغترار..
لكن مما يطمئن أن هذه: "وعكة" مصيرها إلى الاضمحلال و "لوثة وافدة" تنطفي عن قريب، وعودة "المنشقين" إلى جماعة المسلمين أن تعلم:
* أن هذا التبدد يعيش في أفراد بلا اتباع،
وصدق الله:{وما للظالمين من أنصار} البقرة270 .
ومن صالح الدعاء: {ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} الأعراف47.
وقوله تعالى: {رب فلا تجعلني في القوم الظالمين} المؤمنون94 .
* وأن هؤلاء الأفراد يسيرون بلا قضية.
* وأن جولانهم: هو من فزع وثبة الإنشاق: ولهذا تلمس فيهم زعارة، وقلة توفيق.
فلا بد بإذن الله تعالى أن تخبوا هذه اللوثة، ويتقلص ظلها، وتنكتم أنفاسها، ويعود "المنشق" تائباً إلى صف جماعة المسلمين، تالياً قول الله تعالى: {رب نجني من القوم الظالمين} القصص21.
ونسأل الله أن يتوب علينا وعليهم
هذا والله أعلم
وآخر دعوانا
إن الحمد لله رب العالمين
التعديل الأخير تم بواسطة محمد فرج الأصفر ; 08-02-2015 الساعة 03:20 PM.