والكلام في هذه المنزلة معلق بطرفين : طرف محبة العبد لربه ، وطرف محبة الرب لعبده ، والناس في إثبات ذلك ونفيه أربعة أقسام : فأهل يحبهم ويحبونه على إثبات الطرفين ، وأن محبة العبد لربه فوق كل محبة تقدر ، ولا نسبة لسائر المحاب إليها ، وهي حقيقة " لا إله إلا الله " وكذلك عندهم محبة الرب لأولليائه وأنبيائه ورسله : صفة زائدة على رحمته ، وإحسانه وعطائه ، فإن ذلك أثر المحبة وموجبها ، فإنه لما أحبهم كان نصيبهم من رحمته وإحسانه وبره أتم نصيب.
مراتب المحبة:
أولها: " العلاقة " وسميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب.
الثانية: " الإرداة " وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلب له.
الثالثة: " الصبابة " وهي انصباب القلب إليه، بحيث لا يملكه صاحبه ، كانصباب الماء في الحدور .
الرابعة: " الغرام " وهو الحب اللازم للقلب ، الذي لا يفارقه ، بل يلازمه كملازمة الغريم لغريمه ، ومنه سمى عذاب النار " غراماً " للزومه لأهله ، وعدم مفارقته لهم . قال تعالى: ( إن عذابها كان غراماً ) الفرقان: 65
قلت: (وهذه المرتبة لا تصح أن تصرف من العبد إلى الرب على ظاهرها ويجوز صرف معناها ، بل هي من مراتب المحبة العامة).
الخامسة: " الوداد" وهو صفو المحبة ، وخالصها ولُبها ، والودود من أسماء الرب تعالى ، وفيه قولان: أحدهما : أنه المودود ، قال البخاري في صحيحه "الودود: الحبيب".
والثاني: أنه الواد لعباده ، أي المحب لهم ، وقرنه باسمه الغفور إعلاماً بأنه يغفر الذنب ، ويحب التائب مه ، ويوده . فحظ التائب: نيل المغفرة منه.
وعلى القول الأول " الودود " في معنى يكون سر الاقتران ، أي اقتران الودود بالغفور استدعاء مودة العباد له ، ومحبتهم إياه باسم " الغفور ".
السادسة: " الشغف " ياقال : شغف بكذا ، فهو مشغوف به ، وقد شغفه المحبوب ، أي وصل حبه إلى شغاف قلبه ، كما قال النسوة عن امرأة العزيز: " قد شغفها حباً " يوسف:30 وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحب المستولى على القلب ، بحث يحجبه عن غيره . قال الكلبي: حجب حبه قلبها حتى لا تعقل سواه.
الثاني: الحب الواصل إلى داخل القلب ، قال صاحب هذا القول: المعنى أحبته حتى دخل حبه شغاف قلبها ، أي داخله.
الثالث: أنه الحب الواصل إلى غشاء القلب، و" الشغاف " غشاء القلب إذا وصل الحب إليه باشر القلب. قال السدي: الشغاف جلدة رقيقة على القلب ، يقول: دخله الحب حتى أصاب القلب.
وقرأ بعض السلف: " شعفها " أي ذهب الحب بها كل مذهب وبلغ بها أعلى مراتبه ، ومنه : شعف الجبال ، لرؤسها.
السابعة: " العشق " وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه ، وعليه تأول إبراهيم ، ومحمد بن عبد الوهاب (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به)البقرة:286 . قالوا : هو العشق.
ورفع إلى ابن عباس شاب وهو يعرفه قد صار كالخلال ، فقال: ما به؟ قالوا: العشق. فجعل ابن عباس عامة دعائه بعرفة : الاستعاذة من العشق.
وفي اشتقاقه قولان: أحدهما : أنه من العَشَقَة محركة وهي نبت أصفر يلتوي على الشجر ، فشبه به العاشق.
والثاني: أنه من الإفراط . وعلى القولين : فلا يوصف به الرب تبارك وتعالى، ولا العبد في محبة ربه . وإن أطلقه سكران من المحبة قد أفناه الحب عنن تمييزه ، كان في خفارة صدقه ومحبته.
الثامنة: " التتيم " وهو التعبد والتذلل، يقال : تيمه الحب أي ذلله وعبده وتيم الله: عبد الله ، وبينه وبين اليتم : الذي هو الانفراد تلاق في الاشتقاق الأوسط ، وتناسب في المعنى فإن " المتيم " المتفرد بحبه وشجوه . كانفراد اليتيم بنفسه عن أبيه ، وكل منهما مكسور ذليل ، هذا كسره يتم ، وهذا كسره تتيم.
التاسعة: " التعبد " وهو فوق التتيم ، فإن العبد هو الي قد ملك المحبوب رقه فلم يبق له شئ من نفسه ألبته ، بل كله عبد لمحبوبه ظاهراً وباطناً . وهذا هو حقيقة العبودية ، وهو الحب التام مع الذل التام والخضوع للمحبوب. تقول العرب طريق " معبد " أي قد ذللته الأقدام وسهلته.
العاشرة: " الخلة " التي انفرد بها الخليلان ، إبراهيم ومحمد عليهما السلام ، كما صح عنه أنه قال: " إن الله اتخذني خليلاً ، كما اتخذ إبراهيم خليلاً " . وقال: " لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لا تخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صاحبكم خليل الرحمن " والحديثان في الصحيح ، وهما يبطلان قول من قال " الخلة " لإبراهيم و " المحبة " لمحمد صلى الله عليه وسلم.
والخلة: هي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه ، حتى لم يبق فيه موضع لغير المحبوب. وهذا هو السر الذي لأجله والله أعلم أمر الخليل بذبح ولده ، وثمرة فؤاده وفلذة كبده ، لأنه لما سأل الولد فأعطيه ، تعلقت به شعبة من قلبه . و " الخلة " منصب لا يقبل الشركة والقسمة . فغار الخليل على خليله: أن يكون في قلبه موضع لغيره ، فأمر بذبح الولد ، ليخرج المزاحم من قلبه ، فلما وطن نفسه على ذلك ، وعزم عليه عزماً جازماً: حصل مقصود الأمر ، فلم يبق في إزهاق نفس الولد مصلحة ، فحال بيه وبينه ، وفداه بالذبح العظيم . وقيل له: ( يا إبراهيم قد صدقت الرءيا ) الصافات: 104ـ105 ، أي عملت عمل المصدق ( إنا كذلك نجزي المحسنين ) الصافات : 105 ، نجزي من بادر إلى طاعتنا ، فنقر عينه كما أقررنا عينك بامتثال أوامرنا، وابقاء الولد وسلامته ( إن هذا لهو البلاء المبين ) الصافات: 106. وهو اختبار المحبوب لمحبه ، وامتحانه إياه ليؤثر مرضاته ، فيتم عليه نعمه ، فهو بلاء محنة ومنحة عليه معاً. وهذ الدعوة إنما دعا إليها بها خواص خلقه ، وأهل الألباب والبصائر منهم ، فما كان أحد يجيب داعيها ، ولا كل عين قريرة بها ، وأهلها هم الذين حصلوا في وسط قبضة اليمين يوم القبضتين ، وسائر أهل اليمين في أطرافها.
المحبة تعلق القلب بين الهمة والأنس:
قال صاحب المنازل: المحبة : تعلق القلب بيين الهمة والأنس .
يعني: تعلق القلب بالمحبوب تعلقاً مقترناً بهمة المحب ، وأنه بالمحبوب ، في حالتي بذله ومنعه ، وإفراده بذلك التعلق . بحيث لا يكون لغيره فيه نصيب.
وإنما أشار إلى أنها بين " الهمة والأنس " لأن المحبة لما كانت هي نهاية شدة الطلب ، وكان المحب شديد الرغبة والطلب : كانت " الهمة " من مقومات حبه ، وجملة صفاته . ولما كان الطلب بالهمة قد يعرى عن الأنس ، وكان المحب لا يكون إلا مستأنساً بجمال محبوبه ، وطمعه بالوصول إليهة. فمن هذين يتولد الأنس : وجب أن يكونن المحب موصوفاً بالأنس . فصارت المحبة قائمةة بين الهمة والأنس.
ويريد " بالبذل والمنع " أحد أمرين: إما بذل الروح والنفس لمحبوبه ، ومنعها عن غيره . فيكون البذل والمنع صفة المحب ، وإما بذل الحبيب ومنعه ، فتتعلق همة المحب به في حالتي بذله ومنعه.
ويريد بالإفراد معنيين : إما إفراد المحبوب وتوحيده بذلك التعلق . وإما فناؤه في محبته بحيث ينسى نفسه وصفاته في ذكر محاسن محبوبه ، حتى لا يبقى إلا المحبوب وحده. والمقصود: إفراد المحب لمحبوبه بالوحيد والمحبة .