فإن علم أصول الدين والتوحيد والقرآن ومعرفة طريقة السلف في ذلك أشرف العلوم ، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع والعبادات ، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة ما كتبه في أبواب التوحيد والعقيدة وأصول الدين " الفقه الأكبر" وحاجة العباد إلى معرفة أصول الإيمان والتوحيد فوق كل حاجة وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة ، لأن به حياة للقلوب ، ولا نعيم ولا سعادة ولا راحة ولا طمأنينة للعبد ، إلا بأن يعرف ربه ومعبوده وفاطره بأسمائه وصفاته وأفعاله وأقداره وحكمته وجميل تدبيره . ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل ، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين ، وإليه داعين ، وإلى من أجابهم مبشرين ، ولمن خالفهم منذرين ، وجعل مفتاح دعوتهم ، وزبدة رسالتهم ، معرفة المعبود سبحانه ، إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها. وقد بين لنا الإمام الطحاوي رحمه الله عقيدة السلف في رسالة صغيرة المبنى عظيمة المعنى وفي عدة سطور قليلة ، وقد قام بالتعليق عليها وشرحها جماعة من صفوة العلماء وكل شروحهم تعتمد على سرد المتن كما هو وشرحه ، وهذا يصعب على غير طالب العلم في الفهم والربط . فهممت بأن أقوم بالشرح على حديث جبريل ، لعلنا نستفيد ويتقبل منا ومنك مولانا الجليل ، والحمد لله رب العالمين
الباب الأول : الإيمان بالله
وفيه فصلان : التوحيد وأبحاث الكفر والإيمان
الفصل الأول: التوحيد
قوله : ( نقول في توحيد الله ، معتقدين بتوفيق الله ، إن الله واحد لا شريك له )
الشرح :
اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل ، وأول منازل الطريق للسالكين إلى الله العزيز الحكيم ، قال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) الأعراف : 59 . وقال هود عليه السلام لقومه : (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ) الأعراف : 65 . وقال صالح عليه السلام لقومه : (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ) الأعراف : 73 . وقال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء : 25 .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى ) متفق عليه.
ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله ، فالتوحيد أول واجب ، وهو آخر واجب . وهذا ما دل عليه حديث ع مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم " مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ " رواه أبو داود وغيره.
أنواع التوحيد
وكلمة (التوحيد) : مصدر : وَحد ، يُوحد ، تَوحيداً ، يعنى جعل الشيء واحداً . فتوحيد الله معناه أن تجعل الله واحداً لا شريك له ولا ند له ، فهو واحد فيما وحد الله عز وجل نفسه فيه فيما دلت عليه النصوص وقد جاء في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث معاذ ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله ) رواه البخاري ومسلم ، وجاء أيضا في قول الصحابي ( فأهل رسول الله بالتوحيد ) في قوله لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك . والنصوص دلت على أن الله واحد في ربوبيته ,احد في إلهيته واحد في أسمائه وصفاته . فالتوحيد إذا في الكتاب والسنة راجع إلى توحيد الربوبية ، توحيد الإلوهية ، توحيد الأسماء والصفات وهذا على التقسيم المشهور ، الذي جاء في عبارات المتقدمين من أئمة الحديث والأثر ، فجاء عند أبي جعفر الطبري في تفسيره وفي غيره من نكتبه ، وفي كلام ابن بطة ، وفي كلام ابن منده ، وفي كلام ابن عبد البر ، وغيرهم من أهل العلم من أهل الحديث والأثر ، خلافاً لمن زعم من المبتدعة أن هذا التقسيم أحدثه ابن تيمية ، فهذا التقسيم قديم يعرفه من طالع كتب أهل العلم التي ذكرتها . وقد قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله من أين لكم هذا التقسيم فنقول بالاستقراء لما في كتاب الله عز وجل وما جاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقسمه بعض أهل العم إلى تقسيم آخر وهو أن توحيد الله ينقسم إلى قسمين.
توحيد المعرفة والإثبات ، وتوحيد القصد والطلب
الأول : توحيد المعرفة والإثبات:
وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات
وهو (معرفة ) الله عز وجل بأفعاله ، وهذا هو الربوبية ، و(الإثبات) له فيما أثبت لنفسه ، وهذا هو الأسماء والصفات ، ليس كمثله شيء في ذلك كله ، كما اخبر به عن نفسه ، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد أفصح القرآن عن هذا النوع في كثير من السور منها:
قال تعالى : ( الم ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) آل عمران : 1-2
وقال تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى)الإسراء : 110.
وقال تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) طه : 9
وقال تعالى : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) سورة الإخلاص
والثاني : توحيد القصد والطلب
وهو توحيد الإلوهية ، أي توحيد الله بأفعال العباد ، وهو أن يفرد العبد ربه عز وجل في إنابته وخضوعه ومحبته ورجاه ، وأنواع عبادته من صلاته وزكاته وصيامه ودعائه وذبحه ونذره إلى آخ أفراد العبادة بما هو معلوم في توحيد الإلهية .
وغالب سور القرأن الكريم متضمنة لنوعي التوحيد ، بل كل سورة في القرآن . فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته ، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه سبحانه وتعالى وله الكبرياء في السماء والأرض ، والحمد لله رب العالمين.